التاريخ المخزى لمقترح إعادة التوطين
أحمد عبدربه
آخر تحديث:
السبت 1 فبراير 2025 - 6:45 م
بتوقيت القاهرة
عندما خرج الرئيس الأمريكى، دونالد ترامب، مؤخرا ليطالب مصر والأردن باستضافة الفلسطينيين والفلسطينيات من غزة والضفة، فإنه لم يأت بجديد، ربما اختلفت التفاصيل، ولكن خطة تفريغ فلسطين من أهلها من أجل إقامة دولة ذات أغلبية يهودية تعود إلى تاريخ إنشاء الدولة العبرية ذاته، أى إن الفكرة عمرها يقترب من ٧٧ عاما!
تهدف هذه الفكرة شديدة الخبث والمكر إلى حل المعضلات الأمنية والقانونية، بل و«الأخلاقية» لإسرائيل عن طريق تحويل القضية الفلسطينية من قضية أرض محتلة وشعب يبحث عن حقه الشرعى فى تقرير مصيره، إلى قضية إنسانية بحتة، تبحث عن تقديم العون للشعب الفلسطينى عن طريق تهجيره من أراضيه، ليس فقط نحو تفريغ القضية الفلسطينية من مضمونها، بل ونحو تصدير أزمات إسرائيل إلى الدول العربية المحيطة بها حتى إذا ما حدث انفجار تكون توابعه فى هذه الدول بعيدة عن الدولة العبرية!
• • •
عندما تم الإعلان عن قيام إسرائيل فى ١٩٤٨، وبعد أن رفض العرب حل الدولتين كان الشغل الشاغل للحكومة هناك هو الكيفية التى يمكن بها التغلب على الحقيقة الديموغرافية المتمثلة فى أن عدد العرب أكبر من عدد اليهود فى فلسطين التاريخية! وكانت واحدة من أهم الأدوات التى تم استخدامها للتغلب على هذه المعضلة هو القيام بالأعمال الإرهابية من أجل إجبار الشعب الفلسطينى على الهجرة، أو بمعنى أدق التهجير نحو الدول المجاورة مثل الأردن وسوريا ولبنان! وخلال شهر واحد فقط (ديسمبر ١٩٤٩) تم تهجير ٧٥٠ ألف فلسطينى وفلسطينية مما تم اعتباره الأراضى الإسرائيلية إلى الأراضى المفترضة لدولة فلسطين (غزة، الضفة، وأجزاء من صحراء النقب)، بل وإلى خارج فلسطين التاريخية بالكامل!
أمام هذا الإرهاب الإسرائيلى، ولمواجهة الوضع الإنسانى المتدهور لهؤلاء اللاجئين، قامت الأمم المتحدة فى نفس هذا الشهر (ديسمبر ١٩٤٩) بإنشاء وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين التى تعرف باسم «الأونروا». ورغم أن الأونروا كانت تهدف بالفعل إلى مساعدة اللاجئين إلا أن بعض العاملين بها كان لديهم أفكار خبيثة تتخذ من العمل الإغاثى غطاء نحو التأكد من عدم عودة هؤلاء إلى أراضيهم مرة أخرى! كان من ضمن هؤلاء الأمريكى بلاندفورد المفوض العام الثانى للأونروا كان لهذا الرجل تاريخ من المشاركة فى برامج إعادة الإعمار بدءا من بناء المشاريع العامة وتوظيف العاطلين بها والذى كان جزءا من حل أزمة الكساد الكبير (١٩٢٩-١٩٣٣)، وصولا إلى مشروع مارشال لدعم وإعمار أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية.
تقدم بلاندفورد بمقترح للجمعية العامة لتخصيص ٢٠٠ مليون دولار أمريكى (ما يعادل الآن حوالى ٢.٥ مليار دولار) من أجل «البرنامج الجديد» مستوحيا الاسم من برنامج «الصفقة الجديدة» الذى طبقته الولايات المتحدة عقب أزمة الكساد. فى هذا البرنامج يتم بناء معسكرات للاجئين الفلسطينيين فى الدول العربية، تقوم هذه المعسكرات على النشاط الزراعى، فمن ناحية يجد اللاجئ مكانا آمنا للعيش، ومن ناحية أخرى تقوم نهضة زراعية فى الدول العربية وهو ما يتماشى مع سياسة الولايات المتحدة فى دعم عملية التنمية فى الدول العربية لاستقطابها فى الحرب الباردة!
وافقت الجمعية العامة بالفعل على دعم المشروع، كما تحمست الولايات المتحدة لدعمه، لكن ومع نهاية عام ١٩٥١ قررت الأونروا أن يكون أول معسكر لإعادة التوطين فى سيناء! لماذا سيناء؟ ادعى بلاندفورد أن الأزمة الأكبر التى تواجه الأونروا هى فى غزة، كون أن هذا القطاع صغير المساحة كان يعيش فيه ٢٠٠ ألف لاجئ ولاجئة وهو ما كان يعادل وقتها ثلاثة أضعاف عدد سكان القطاع الأصليين، ومن ثم كان المقترح أن يبدأ المشروع فى سيناء! لكن لماذا فى سيناء وليس فى القطاع نفسه؟ كان رأى بلاندفورد أن القطاع كان بالفعل تحت السيادة الإدارية المصرية! نعم هذا صحيح، ولكن لماذا يكون إعادة التوطين فى سيناء بدلا من القطاع؟ كان رد بلاندفور والأونروا أن مشاريع الجدوى أظهرت أن إقامة هذا المشروع العملاق فى غزة غير مجدٍ من الناحية الاقتصادية والفنية!
• • •
الحقيقة التى لم يقلها بلاندفورد لكن عرفها الجميع بعد ذلك، أن الهدف الحقيقى لم يكن مجرد هدف إنسانى (غوث اللاجئين)، ولا حتى هدف اقتصادى (دعم مشاريع التنمية فى العالم العربى)، بل ومع تكشف الأحداث لاحقا فإن فكرة جذب الدول العربية إلى الجانب الأمريكى بعد دعم عملية التنمية فيها - وهو هدف استراتيجى واضح لمجابهة الكتلة الشرقية - لم تكن هى الفكرة المحورية، بل كانت بمثابة عصفور ثانٍ يمكن ضربه بنفس الحجر، فمن يكون العصفور الأول المراد ضربه إذا؟
كان الأمر وراء هذا المشروع هو تحقيق أربعة أهداف استراتيجية كلها متعلقة بإسرائيل، لا بالعرب ولا حتى بالشعب الفلسطينى:
الهدف الأول إعادة رسم المعادلة الديموغرافية التى تقلق إسرائيل وقادتها حيث يتفوق عدد السكان العرب على عدد اليهود.
الهدف الثانى أن يتم تفريغ فلسطين التاريخية من أهلها، بحيث يكون حل الدولتين بلا معنى، ويكون الطريق فى المستقبل ممهدا نحو إقامة دولة إسرائيلية عاصمتها القدس.
الهدف الثالث، تمثل فى تصدير أزمات الشعب الفلسطينى للدول العربية، بعيدا عن إسرائيل حتى تتنصل الأخيرة من مسئولياتها أمام القانون الدولى كسلطة احتلال من ناحية، وحتى تكون أى انفجارات أمنية أو سياسية بعيدة عن حدودها، من ناحية أخرى، وهذا بالفعل ما حدث لاحقا حينما وقعت أحداث أيلول الأسود ١٩٧٠ فى الأردن، وانطلقت شرارة الحرب الأهلية اللبنانية فى ١٩٧٥وفى هذه الأخيرة تحديدا فقد احتلت إسرائيل لبنان مرتين ١٩٧٨، ١٩٨٢، تحت دعوى مواجهة المقاومة الفلسطينية!
أما الهدف الرابع والأخير فقد تمثل فى تحويل القضية الفلسطينية برمتها من كونها قضية أرض تم احتلالها، وشعب تم تهجيره، وسلطة احتلال مسئولة عن هذا وذاك، إلى قضية إنسانية - إدارية بحتة، عنوانها الكبير هو تقديم العون للشعب الفلسطينى بإبعاده عن أرضه مقابل إيجاد وظائف ومأوى له، ومن ثم لا تعد إسرائيل سلطة احتلال، ولا يكون هناك أراض للاجئين للعودة إليها، بل ولربما وجدنا إسرائيل لاحقا تشارك فى هذه الإغاثة كجزء من رسالتها الحضارية - الإنسانية!
• • •
تم إرسال عدة لجان فنية بواسطة الأونروا إلى سيناء للنظر فى مسألة إيصال المياه إلى المكان المفترض فيه إقامة معسكر اللاجئين الزراعى، وكلها أجمعت على عدم جدوى ذلك! توقف المشروع لبضعة أشهر حتى قامت حركة الضباط الأحرار بإنهاء الحكم الملكى، فعاد المشروع إلى الواجهة مجددا، فى محاولة لإقناع عبد الناصر بأهمية المشروع لمصر ولتنميتها واكتفائها الذاتى!
عادت اللجان الفنية للعمل فى ١٩٥٣ وبعد عامين تقريبا خلصت اللجان إلى أن المياه ستأتى من النيل عن طريق أنابيب يتم مدها إلى سيناء لتمر من تحت قناة السويس، وأن هناك جدوى اقتصادية لذلك! لم تكن الفكرة فى الواقع جديدة، فقد سبق طرحها قبل نصف قرن (١٩٠٢-١٩٠٣) من قبل المنظمة الصهيونية العالمية إلى بريطانيا كى تقوم بتوصيل النيل بسيناء لإقامة وطن يهودى فيها وهو الأمر الذى اقتنعت بريطانيا - بعد إجراء الدراسات - بعدم جدواه! لكن هذه المرة قالت لجان الأونروا أن المشروع له جدوى، بل وزادت أن الأمر حال نجاحه سيشكل ثورة كبرى فى الهندسة الزراعية!
لطمأنة عبد الناصر ورفاقه تم تصوير المشروع لمصر وكأنه فرصتها فى تأكيد انفكاكها من الاستعمار، بل وتم إعطاء التطمينات الخاصة بمسألة السيادة، فالمشروع سيكون فى أرض مصرية، ومن ثم فهو برمته تحت تصرف وإدارة مصر، كذلك فقد تم التأكيد على أن اللاجئين الذين سيقع الاختيار عليهم، سيكونون تحت رقابة تامة من السلطات المصرية، فالأمر أشبه بمعسكر مغلق بإحكام تحت تصرف المصريين!
رفضت مصر الأمر، وعلى عكس ما طمح إليه داعمو المشروع، فإنه تسبب فى ثورة وعى لدى أهل غزة ولدى كل الشعب الفلسطينى داخل وخارج فلسطين التاريخية بحقيقة المشروع وأهدافه التى تتخطى الغوث، وتذهب إلى إنهاء القضية الفلسطينية برمتها، وهو ما كان أحد أسباب قيام ثورة فى غزة عام ١٩٥٣ والتى عرفت باسم «انتفاضة مارس»، وكانت هذه هى نقطة النهاية بالنسبة للمشروع الخبيث فى هذه الفترة.
• • •
توقفت الأمم المتحدة عن طرح المشروع، لكن عادت الحكومة الأمريكية لتعيد طرحه بشكل منتظم منذ الثمانينيات، ومع كل مرة يتغير مسمى المشروع وتتغير خطواته التنفيذية، كما تتزايد الإغراءات لمصر عن طريق وعود اقتصادية شديدة السخاء، لكن حسنا فعلت الخارجية المصرية ببيانها القاطع، والأهم أن رئيس الجمهورية لم يكتف ببيان، بل خرج فى خطبة شديدة الوضوح لا ترفض مقترح ترامب فقط لخطورته على أمن مصر، وعلى علاقاتها بالجانب الفلسطينى، لكن أيضا لأنه ضد حق الشعب الفلسطينى العادل فى أن يكون له وطن!
كانت أبلغ عبارات ذلك الخطاب أن مصر «لا يمكن أن تشارك فى هذا الظلم للفلسطينيين!» بالطبع لن يتوقف نتنياهو ولا ترامب عن الضغوط، فهناك معركة دبلوماسية واقتصادية قادمة مع الإدارة الأمريكية، وعلى مصر الاستعداد!