التهجير والسلام فى الشرق الأوسط

إبراهيم عوض
إبراهيم عوض

آخر تحديث: السبت 1 فبراير 2025 - 6:35 م بتوقيت القاهرة

لا يخفى أن المقصود هو تهجير سكان غزة من بنات وأبناء الشعب الفلسطينى المنهكين بعد خمسة عشر شهرا من الحرب إلى الدول العربية المتاخمة لفلسطين، وتحديدا إلى مصر والأردن. هذا ما طالب به الرئيس الأمريكى الجديد القديم منذ أيام. حجته أن هذا التهجير سيمكِّن المهجرين الفلسطينيين من أن يعيشوا فى أمكنة آمنة حتى «نقوم بتنظيف» موقع الهدم الذى صارت إليه غزة. حجة الرئيس الأمريكى فيها تناقض صارخ. هو غلّفها باعتبار إنسانى مع أن دعوته تنشئ مشكلة إنسانية لأن من شأن تنفيذها أن تنتج مئات الآلاف من اللاجئين، واللجوء هو دائما مشكلة إنسانية.

فور الإعلان عما قاله الرئيس الأمريكى لعدد من الصحفيين، رفضته الأردن على لسان وزير خارجيتها. فى مصر هبت القوى السياسية والاجتماعية، بتنسيق أو بدونه، وبادرت شخصيات عامة، فأعلنت عن رفض الفكرة من أساسها، وهو رفض انعقد عليه توافق المصريين. وما هى إلا أيام حتى رفض رئيس الجمهورية يوم 29 يناير الماضى علانيةً فى مؤتمر صحفى الفكرة جملة وتفصيلاً، صراحةً ودون مواربة. إبعاد أبناء الشعب الفلسطينى عن أرضهم ظلم لا يمكن أن تشارك مصر فيه، قال رئيس الجمهورية، وهو أحسن فى ذلك وفى رفضه الصريح بغير مواربة. يذكر أن ملك الأردن أكد فى بروكسل فى نفس يوم تصريح رئيس الجمهورية أن الموقف الأردنى «الراسخ» هو ضرورة «تثبيت الفلسطينيين على أرضهم».

خيرا فعلت القوى السياسية والاجتماعية والشخصيات العامة التى عبرت عن رفضها للتهجير بأنها لم تتحجج بالحالة الاقتصادية الصعبة التى تمر بها مصر، فحتى لو كانت الحالة مزدهرة فإنه يجب رفض فكرة الرئيس الأمريكى. قبول تهجير سكان غزة اليوم هو قبول بمبدأ التهجير وهو سينسحب غدا على سكان الضفة الغربية لنهر الأردن فيصبح الأمر أمر تصفية للقضية الفلسطينية. حث مصر والأردن على قبول التهجير هو دق إسفين بينهما وبين الشعب الفلسطينى الذى أبقى على جذوة قضيته حيةً على الرغم من كل ما لحق بها من تراجع على الأرض. تسوية القضية الفلسطينية لا يمكن أن تحدث إلا على أرض فلسطين. هذا شرط للاستقرار والسلام فى المنطقة. أى طرف جاد فى العلاقات الدولية وفاعل مسئول فى النظام الدولى لا يمكن إلا أن يدرك ذلك. التعامى عنه استهتار بالمنطقة، وبدولها العربية، ومنها مصر، ناهينا عن الشعب الفلسطينى.

• • •

دول أوروبية منها فرنسا وبريطانيا وحتى ألمانيا رفضت فكرة الرئيس الأمريكى. الناطق باسم وزارة الخارجية الألمانية، المعروفة وزيرتها بانحيازها السافر لإسرائيل، ذهب فى مؤتمر صحفى إلى أن ألمانيا مازالت ملتزمة بالتوافق الدولى بشأن وضع غزة وقال حرفيا إنه «يوجد موقف مشترك للاتحاد الأوروبى وشركائنا العرب والأمم المتحدة، وهو موقف واضح جدا. الفلسطينيون لا يمكن طردهم من غزة كما أنه لا يمكن أن تحتل إسرائيل غزة بشكل دائم وأن تستوطنها». ثم أضاف الناطق الألمانى أن مجموعة الدول المصنعة السبع، والولايات المتحدة عضو فيها، أيدت هذا الموقف باستمرار وفى عديد البيانات. يلاحظ على ما قاله الناطق باسم الخارجية الألمانية أن بلاده تدرك أن تهجير سكان غزة هو فى الواقع بمثابة طردهم. الموقف الألمانى والأوروبى قد يرجع إلى نوع من احترام القانون الدولى والحرص على عدم تقويض فرص سلام واستقرار مقبل فى الشرق الأوسط.

لكن هذا الموقف قد يكون تفسيره أيضا إدراك أن مئات الآلاف من فلسطينيى غزة المدفوعين قسرا إلى اللجوء إلى الأردن أو مصر لا بدّ أن يفيضوا عنهما ليصلوا إلى القارة الأوروبية نفسها فتتعزز الآليات السياسية الداخلية التى خبرتها دولها فى العقد الماضى. هذه الآليات أدت إلى إعادة توزيع القوى السياسية فى الدول الأوروبية وصعود اليمين القومى الشعبوى فيها المهدد للتكامل الأوروبى ذاته وللاستقرار فى القارة.

 أيا كان السبب فى الموقف الأوروبى فإنه مناسب للمواقف المصرية والأردنية والعربية عموما، وهو متسق مع الرأى الاستشارى الصادر عن محكمة العدل الدولية فى شهر يوليو 2024 بشأن سياسات وممارسات إسرائيل فى الأراضى الفلسطينية المحتلة، بما فيها القدس الشرقية. محكمة العدل الدولية رأت أن «الإبعاد القسرى الفردى أو الجماعى، وكذلك ترحيل الأشخاص المتمتعين بالحماية من إقليم محتل إلى إقليم دولة الاحتلال، أو إلى إقليم أى دولة أخرى، محتلة أو غير محتلة، محظور، أيا كان الدافع إليه» وذلك بمقتضى الفقرة الأولى من المادة 49 من اتفاقية جنيف الرابعة. ثم أردفت المحكمة أن الإبعاد يكون «قسريا»، وبالتالى محظور بمقتضى المادة 49، ليس فقط إذا ما مورست القوة المادية لتحقيقه، وإنما كذلك عندما لا يُترَكُ للناس خيارٌ غير المغادرة.

• • •

على الرغم من هذه الحجج كلها عاد الرئيس الأمريكى يوم 30 يناير الماضى ليكرر مطالبته لمصر والأردن باستقبال لاجئين من غزة وليؤكد أن البلدين سيفعلان ما يريد. يتساءل المراقب كيف يتجاهل الرئيس الأمريكى الحجج السياسية التى يسوقها حتى أقرب حلفاء الولايات المتحدة، والأسس القانونية التى تؤصلها أعلى هيئة قضائية دولية، وكيف يجىء بالثقة التى يتحدث بها! ومع ذلك فإن هذا التجاهل، إضافةً إلى المواقف المصرية والأردنية والعربية والأوروبية المذكورة وغيرها، من بينها الأمريكية نفسها قبل العشرين من يناير الماضي، والرأى الاستشارى لمحكمة العدل الدولية، يمكن الاستعانة بها والبناء عليها لتعبئة المجتمع الدولى لوأد فكرة الرئيس الأمريكى فى مهدها. الرئيس الأمريكى تحرش حتى من قبل أن يبدأ ولايته بالمكسيك وبكندا وبالدنمارك، فاتخذت هذه البلاد من تحرشه موقفا صارما على الرغم من تهديده للأوليين منهما بفرض رسوم جمركية باهظة على صادراتهما إلى السوق الأمريكية. وفى الأسبوع الماضى دخل فى مواجهة مع كولومبيا اضطر إلى قبول حل وسط لتسويتها. أفكار الرئيس الأمريكى ليست قدرا لا فكاك منه. تعبئة المجتمع الدولى سبيل يمكن أن يكون فعالاً لوأد فكرته عن تهجير سكان غزة.

لمصر علاقات مع الأغلبية الساحقة من دول العالم وهى عضو فى منظمات إقليمية عديدة، فضلاً عن الأمم المتحدة. قرار مساند لمصر والأردن يصدر عن جامعة الدول العربية مفروغ منه. يمكن لمصر أن تعمل على أن تعيد الجمعية العامة للأمم المتحدة التأكيد على عدم التهجير القسرى للشعب الفلسطينى من غزة والضفة الغربية ولتكرار مساندة الرأى الاستشارى لمحكمة العدل الدولية بشأن الاحتلال الإسرائيلى للأراضى الفلسطينية المحتلة. الاتحاد الإفريقى، المحفل الإقليمى لقارتنا، لابدّ أن يكون يسيرا استصدار قرار منه بنفس المعنى. البريكس + (بلاس) تنظيم دولى متعدى الأقاليم مصر طرف فيه ولا يمكن أن تكون ثمة صعوبة فى أن يؤكد على عدم التهجير القسرى للشعب الفلسطينى فالدول الأطراف فيه معروف أغلبها إن لم يكن كلها، وأولها جنوب إفريقيا، بمساندتها الصريحة للشعب الفلسطينى. مصر شريكة حوار فى منظمة شنجهاى للتعاون وأعضاؤها لا بدّ أنهم مستعدون لإصدار مثل هذا القرار. ويمكن حث أعضاء فى منظمات دون إقليمية تربطهم علاقات ودية مع مصر ويساندون الشعب الفلسطينى على أن تصدر منظماتهم قرارات ترفض فيها التهجير القسرى وتؤكد حق الشعب الفلسطينى فى تقرير المصير على أرضه. من هذه المنظمات مثلاً الجماعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (إيكواس)، ومنظمة التعاون من أجل التنمية فى الجنوب الإفريقى (سادك)، ومنظمة أمم جنوب شرقى آسيا (أسيان). مثل هذه التعبئة، المرجح هو أن يعتبرها الرئيس الأمريكى مواجهةً له.

• • •

يبقى السؤال الأهم وهو هل ندخل فى مواجهة مع الرئيس الأمريكى أم نتعامل باللين معه بشأن فكرته عن تهجير سكان غزة إلى مصر والأردن. اللين، إن نجح، سيطلب الرئيس الأمريكى مقابلاً لنجاحه فهل نحن مستعدون لتسديد هذا المقابل إن كان مثلاً قبول ضم الضفة الغربية أو مزيد من التوسع فى استيطانها أو العودة إلى استيطان غزة؟ من جانب آخر، المواجهة قد يكون لها ثمن مثل قطع مساندة صندوق النقد الدولى لمصر فى محنتها الاقتصادية الحالية، فللولايات المتحدة نسبة من الأصوات فى المجلس التنفيذى للصندوق تحول دون اتخاذ القرارات التى لا توافق عليها، أى إنها شبيهة بحق الفيتو. غير أن مصر لا تعدم الأدوات. المواقف المذكورة للدول الأوروبية، عن إخلاص للقانون الدولى ولإقامة السلام المستدام فى المنطقة، أو تخوفا من الآثار التى قد تنالها من الضغط على مصر، أداة معتبرة.

ولكن الأداة الأهم هى مواقف الدول العربية. فى حالة المواجهة بين مصر والأردن، من جانب، والرئيس الأمريكى، من جانب آخر، يصعب تصور أن تجاريه الدول العربية فى رغبته فى توسيع نطاق الاتفاقات المسماة «بالإبراهيمية» وفى تطبيع علاقاتها بإسرائيل. علاقات متوترة مع مصر والأردن تعنى فشل الرئيس الأمريكى فى تحقيق مراده.

وإن كانت فرص السلام الحقيقى المستدام فى الشرق الأوسط زهيدة فى الوقت الحالى، فإن الإبقاء على الأمل فيها يستدعى محاربة الفكرة الرعناء للرئيس الأمريكى.

 

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved