حنين إلى عروس البحر
جميل مطر
آخر تحديث:
الثلاثاء 1 مارس 2016 - 10:40 م
بتوقيت القاهرة
الإسكندرية تعنى لى الكثير. لعبت دائما معى دور الفواصل الضرورية فى حياتى. قضيت فيها جميع اجازات الصيف وأنا طفل، وأغلب إجازاتى وانا طالب فى الابتدائى وطالب فى المدرسة الثانوية وطالب فى الجامعة، وفى هذه المرحلة كانت شاهدا مشجعا على انغماسى فى اول علاقة عاطفية جادة. عرفت الاسكندرية بشكل مختلف عندما تخرجت وانتقلت للسكن فيها فى مهمة تدريب فى إحدى شركات البترول العاملة فى الصحراء الغربية. أقمت شهورا مع عائلة إيطالية تسكن فى الطابق الاول من عمارة تطل على الكورنيش فى كامب شيزار. أظن أنه بنهاية هذه الشهور كنت قد استكملت الانتقال من مرحلة عمرية إلى مرحلة أخرى. كنت مع شباب العمارة، وكلهم أجانب نقضى الأمسيات فى الابراهيمية أو وسط المدينة، نتنقل بين دور السينما وصالات البلياردو وقاعات الموسيقى والرقص. تعلمت فى الاسكندرية السباحة وحب السفر وركوب البحر والاختلاط والعيش بين أجانب.
***
انتهى التدريب والتحقت بعمل وفر لى اشباع متعة السفر. سافرت لمدد طويلة وقصيرة. دائما اعود إلى الاسكندرية أقضى ليلة أو ليلتين، رأيتها فى الفواصل بين مدد غياب قصيرة تختلف كل مرة قليلا عن المرة السابقة. بدأت بملاحظة الأجنبى يرحل مصطحبا معه نفحة من روح الاسكندرية التى خلدها أدباء أوروبيون عظام عاشوا فيها، وبملاحظة المحال والمقاهى والمطاعم التى أغلقت أبوابها وانتقلت ملكيتها وادارتها إلى عمال مصريين كانوا يعملون فيها. أو لطامحين جدد. اختفى الجيتار من كل المطاعم ليحل مكانه الراديو ثم التليفزيون. رأيتها فى الزيارات بين مدد غياب طويلة تختلف كل مرة كثيرا عن المرة السابقة. حل بائع الفول السودانى محل بائع الجمبرى المتجول على المقاهى والمعروف شكلا واسما لروادها. اختفت محلات البيتزا واغلقت معظم صالات البلياردو. بدأت تظهر بتدرج أكوام النفايات فى اركان مظلمة من محطة الرمل قبل ان تتمدد إلى أرصفة ومواقف «التروماى أبو دورين». وما هى إلا سنوات قليلة وكانت بعض أجمل شواطئ العالم قد تحولت إلى صفوف من مقاعد بلاستيكية بألوان منفرة متراصة بقبح وملل، وكان الكورنيش الطيب السمعة قد أصبح نموذجا لحالة شبه مستعصية لمرور شبه متوقف.
***
استمر حبى لها رغم كل ما أصابها من تشوهات وما فقدته من سحر. لعله الحنين المتجدد، اعيش فى واقعها بينما حواسى تعيش فى ماضيها. لم تكن زيارتى الأخيرة المرة الوحيدة التى أرفض فيها الواقع وأتمسك بما يهواه القلب. وصلت محطة سيدى جابر، مشيت خارجا منها مغمض العينين خوفا من ان أفقد صورة المحطة التى حفرت لنفسها فى خيالى ذكريات عزيزة لعقود عديدة. خرجت إلى شارع لم نكن نخرج إليه، ليقابلنى عدد غفير من سائقى الأجرة يتدافعون لاختطاف حقيبة سفرى. أحدهم نجح، وعندما سألته عن الأجرة، أجاب إجابة مقيتة كفيلة بأن تغرس فى سامعها الشعور بالإهانة والمهانة معا وتذكرك بأنك فى دولة لا يحكمها قانون، قال «اللى تدفعه».
العداد لا يعمل ولن يعمل والمقاعد هالكة. الموتور بصوت جرار زراعى والراديو يذيع ما لا تحب ان تسمعه. أما المشوار فصار يستهلك وقتا أطول مما كان يستهلكه قبل عشرين سنة، أو حتى أربعين.
السائق غاضب. غاضب منى لأننى أطلت فى توسلاتى لأحصل على تكلفة الرحلة، وغاضب من كل السائقين الذين ساقتهم الاقدار ليزاحمونه فى طرق ضيقة، أو يسابقونه فى طريق الكورنيش، أو يتبادلون معه النظرات الشذرة والتعليقات الساخرة خلال الوقفات الطويلة. غاضب أيضا لاننى سألته، رغبة منى فى ان اقترب به إلى حالة حضارية وسط سياق متوحش، عن اسم المحافظ الجديد. ليتنى ما سألت، فقد استهلكت الاجابة كل الوقت المتبقى لنا معا، إجابة غطت كل الممكن ابتداء من انه لا يعرف اسمه، وانتهاء بانه لن يحقق شيئا مثله مثل كل من سبقوه باستثناء محافظ تولى المسئولية عندما كان سائقنا ما يزال طفلا فى المدرسة.
***
تغيرت الاسكندرية. تغيرت معظم معالمها وتغيرت طبيعة أهلها. رحت هذه المرة كما فى كل مرة أسأل وأبحث عن مطعم بعينه. هذه المرة قررت ألا أيأس بسرعة. تراسلت حتى وجدت من يظن انه يعرف المطعم الذى أعنيه. أخذنا اسما لشارع لم يسمع به سائق التاكسى. واسما لمطعم لم يستطع السائق النطق به أثناء استفساره من المارة وعساكر المرور وأقرانه السائقين والباعة المتجولين.
اخترقنا فى دهمة الليل اسواقا مزودة بكشافات براقة وميكروفونات زاعقة وألوف المتبضعين والمتنزهين. تذكرت بيقين العاشق للمدينة ان هذه المنطقة من الاسكندرية لم يكن يقيم أو يمر فيها اناس لهم صفات الناس الذين رأيتهم فى الأسواق فى تلك الليلة، اللغة مختلفة وكذلك السلوك والشكل والملبس والصوت.
مرة أخيرة هددنى السائق بالتوقف عن البحث والانسحاب من الصفقة لأن مطعما بالأوصاف التى أذكرها وأكررها على أسماع من نسأل لا يمكن بأى حال من الأحوال أن يكون مستمرا فى ممارسة نشاطه فى هذه الأجواء.
وبينما هو يهدد، لمحت بين الأضواء بقعة معتمة أمرته بالتوجه نحوها والتوقف أمام باب زجاجى غطاه التراب وعلى جانبيه «فاترينتان» لا يبوحان بما يدور داخل المحل. استطعت بصعوبة شديدة قراءة اللافتة التى تعلو الباب الزجاجى وكانت تحمل اسما فرنسيا عتيدا.
***
ملأنى الشعور بالزهو لما حققت من انجاز. اخيرا وجدت فى الاسكندرية معلما من معالم عقد الخمسينيات وما قبله. انبهرت، وانبهر من كانوا معى، فلا شىء آخر فى ليل الاسكندرية باق ليذكرنا بليالى ذلك الزمن. وجدنا غايتنا وسهرنا فيه إلى ما بعد منتصف الليل مع موسيقى وأغانى تلك الأيام وعديد الزبائن، كبار وشبابا، هم ايضا من عشاق المدينة التى كانت ساحرة، ومن عشاق المكان الوحيد فيها الذى رفض صاحبه ان يغلقه ويرحل. قضيت الليلة مع نفحات عروس البحر وصحبتها الجميلة واسماكها الشهية والموسيقى الحالمة، قضيت ليلة بين الأجمل من الليالى، أزاحت حزنا وطيبت ألما وجددت حنينا.