الحكى.. طوق نجاة

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: السبت 1 مارس 2025 - 7:10 م بتوقيت القاهرة

نكتب لتضح الرؤية، لنفهم أنفسنا والآخرين بشكل أعمق. نرى المقربين وقد تحولوا لشخوص على الورق، ونحاول أن نجعلهم يتحركون أمام القارىء وينبضون بالحياة، ذلك ما فعلته فيمونى عكاشة فى أول كتاب لها وهو سيرة روائية بعنوان «الخواجاية»، صدرت قبل شهور قليلة عن دار الشروق. قدمت حكيًا ممتعًا، تناولت فيه سيرة والدتها جيردا «الخواجاية» الهولندية التى جاءت إلى مصر فى مطلع خمسينيات القرن الماضى وأحبت أنور وتزوجته وماتت ودفنت إلى جواره فى القاهرة قبل جائحة الكورونا بثلاثة أشهر. ولكى تنجو فيمونى بنفسها وتتخطى أزمة فقدانها لوالدتها، ثم لأخيها بعدها بستة أشهر جراء إصابته بسرطان لعين، غاصت فى ترتيب أوراقها وألبومات الصور. قررت أن تفحص الأشياء التى تراكمت عبر السنين لتحدد ما الذى يجب الاستغناء عنه، وتعترف «كنت أؤجل دائما مغامرة الخوض فى صناديق الذكريات المبعثرة».
وجدت نفسها دون قصد تأخذ دور والدتها فى الحكى لكى تحفظ ذاكرة الأسرة. تروى قصة جيردا وحبها للمهندس أنور عكاشة، ومن خلالهما تتعرض لتاريخ الأماكن والمجتمعات التى عاشوا فيها. ترِد الأحداث تارة على لسان الأم، وتارة أخرى على لسان فيمونى. وهكذا قامت الكاتبة بتضفير الصوتين بشكل متقن، حتى تكتمل الرؤية بتعدد وجهات النظر، وتكتسب الشخصيات مزيدا من العمق. وهى طريقة بارعة فى السرد لا تعتمد على ضمير المتكلم وعلى وجود الراوى العليم الذى يعرف مسبقا ما ستئول إليه مصائر الأبطال.
•••
اعتمدت فى تخيلها على حكايات والدتها التى حفظتها عن غيب، خاصة تفاصيل لقائها بأنور وظروف الحياة تحت وطأة الحرب العالمية الثانية خلال طفولتها وصباها فى هولندا حيث تعلمت العزف على التشيلو وشكلت فرقة موسيقية صغيرة مع أفراد العائلة كلٌ على آلته، إذ كانت الموسيقى هى المتعة الوحيدة المتاحة أثناء الحرب، إلى جانب السجائر التى كانت تعتبر مكافأة للأطفال والكبار مثلها مثل الشكولاتة. وفى واقع الأمر ستظل السيجارة فى يدها حتى آخر أيامها، كما سيظل للموسيقى تأثير سحرى عليها بعد إصابتها بخرف الكبر أو ما تطلق عليه فيمونى «التيه» الذى تقترب أعراضه من مرض ألزهايمر.
استندت المؤلفة أيضا إلى اليوميات التى دونتها أمها فى أجندات سنوية، وإلى الخطابات التى تبادلتها مع أهلها فى الفترة ما بين بداية الخمسينيات ونهاية السبعينيات. كانت هذه الرسائل هى همزة الوصل بين عالمين مختلفين عاشت بينهما جيردا، ثم تعلقت بينهما فيمونى، الابنة التى تحمل اسما عجيبا يؤكد أنها أجنبية فى مصر كما فى هولندا، لأنه من اختراع والدها الذى جمع بين الاسم الأول لجدتها من ناحية الأم «فام» ولخالتها «خونى».
التوازى الذى خلقته فيمونى بين حياتها ومسيرة أمها جعلهما تلتقيان فى المحصلة، بخلاف قاعدة إقليدس التى تقول بأن الخطين المتوازيين لا يتقابلان أبدا. نقف عند أوجه الشبه بينهما سواء من ناحية الشكل فى الصور المرفقة بالكتاب، أو من ناحية حبهما للحياة والسفر والأنشطة الثقافية وروح المغامرة وقدرتهما على التأقلم وعلى إتمام العديد من المهام. كانت تنظر إلى والدتها كما لو كانت امرأة خارقة، وقد صارت مثلها مع الوقت.. وأخذت أيضا بكلام أبيها الذى توفى وهى فى السنة الحادية عشرة من عمرها، حين نصحها: «ذاكرى بتأنٍ، اعملى كل حاجة بتأنٍ شديد».
كانت من أوائل الثانوية العامة فى محافظة الغربية، واشتغلت كمرشدة سياحية ودرست التراث وأسست شركة لترجمة الأفلام وتزوجت وأنجبت واضطلعت بمسئوليات إدارية. وأخيرا غامرت وكتبت هذه السيرة الروائية التى على الأغلب ستغير مسار حياتها وتقودها نحو مزيد من المغامرات الأدبية والفنية، فهى تشترك فى ورش تأليف وإخراج مختلفة لكى تتمكن من صنع فيلما عن جيردا وربما المزيد من الأعمال عن تاريخ عائلة والدها، فجدها هو مؤسس جوقة عكاشة المسرحية فى بدايات القرن الفائت. وربما تستلهم موضوعا من المحلة الكبرى ومنزل طفولتها هناك، الذى لايزال قائما فى التجمع الأول بمدينة العمال: «البيت الوحيد الذى شعرت فيه بالستر والرضا، ربما لهذا مازلت ألوذ إليه حتى الآن فى أحلامى».
•••
حكايات فيمونى ترسم لوحة رائعة لمجتمع المحلة الكوزموبوليتانى حينها وزملاء والدها الذى كان مديرا لمصنع نسيج الكساء الشعبى. ذَهَبت مجددا لزيارة المنزل وتفقدت أماكن أحداث «الخواجاية» وهى بصدد تحضير الكتاب، وعلى ما يبدو لديها الكثير لتقوله حول محطات أسرتها التى طالما افتخرت بتعدد مشاربها، فأمها انتمت للمذهب البروتستناتى وجدتها لأبيها كانت يهودية الديانة، وكلتاهما اعتنقتا الإسلام واندمجتا فى المجتمع، وهى مسلمة لأبيها وعاشقة لتاريخ مصر، ولكن يظل هناك بالطبع بعض المسكوت عنه داخل كل عائلة.
تغلبت على صدمة الغياب وعزلة الكورونا اللتين اقتحمتا حياتها تقريبا فى الوقت ذاته. أخذت دراجة ابنة جارتها وراحت تتجول فى شوارع مصر الجديدة ووسط البلد وحدها، وتسترجع الحكايات وتنبش فى الماضى. تذكرت كلام أمها عن رحلاتها بالدراجة من بلد إلى آخر مع صديقتها المقربة وسط الطبيعة الخلابة.
نكتشف فجأة أننا نكرر دون أن ندرى ما تفعله أمهاتنا، وحين يكون للأم مثل هذا الحضور الطاغى والذكاء المتقد والقدرة الفذة على الحكى نحاول أن نلحق بركابها. كانت جيردا تضحك وتقول إن لابنتها «ذاكرة سمكة» مقارنة بها قبل المرض، إذ كانت تعتبر «أرشيف العائلة الحى». لكن فيمونى قررت أن تدون كل ما سجله رأسها الصغير الأشقر وكل ما رأته عيونها الملونة لكى تحفظ ذاكرة أسرتها من الضياع، فكانت هذه السيرة الروائية البديعة التى تعد من أرق ما كُتب عن علاقة بنت وأمها التى أصيبت بالتيه نظرا للكبر أو لأسباب أخرى. نجحت فى تخليد قصة حب جيردا وأنور اللذين كانا حكائين كلٌ بأسلوبه الخاص، وقد ورثت عنهما فنون السرد.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved