فهم واكتشاف الدورات الاقتصادية
مدحت نافع
آخر تحديث:
الإثنين 1 أبريل 2019 - 10:45 م
بتوقيت القاهرة
يحار غير المختصين ونفر من أهل الاختصاص فى وتيرة تباين التوقعات للاقتصاد العالمى بين النمو والكساد. ومنذ أيام ظهرت توقعات الفيدرالى الأمريكى بتثبيت أسعار الفائدة للفترة المتبقية من عام 2019 لتعكس تحسبا من تباطؤ جديد فى الاقتصاد الأمريكى، على الرغم من تحسن مؤشرات التشغيل، ونمو الناتج المحلى بمعدلات تفوق قليلا المتوسط العالمى.
الدورات الاقتصادية هى سمة لازمة للنظام الرأسمالى، ومأخذ من مآخذ المدرسة الماركسية على ذلك النظام. وقد أدرك الاقتصاديون على اختلاف مدارسهم الفكرية والمرحلة التاريخية التى تكونت خلالها أفكارهم حقيقة تعرض الاقتصاد فى مجموعه إلى تقلبات عنيفة، وأن الاقتصاد لا يتبع اتجاها عاما مستقرا، بل تصيبه بين الحين والآخر موجات من التضخم والكساد فى الأنشطة المختلفة، الأمر الذى ربما عكسه الجدل الذى ثار حول التخمة العامة General Glut والنظرية الماركسية للأزمات. ولكن تطوير هذه الفكرة واكتشاف النمط الدائرى لتلك الاضطرابات بحيث تتكرر بصورة دورية محددة بدقة، لم يتم إلا فى نهاية القرن قبل الماضى على يد «وليام ستانلى جيفونز» و«كليمنت جوجلر».
***
قدم المفكرون الأوائل نظريات تدور بصورة أساسية حول مفهوم الدورة الخارجية «exogenous cycle» وذلك بربط الدورات الاقتصادية بدورات خارجية أخرى توجد فى الطبيعة، مثل الطقس والذى ربما يتأثر بدوره بظواهر كونية غير قابلة للتفسير. فمن وجهة نظرهم تؤثر الظواهر الطبيعية على أشياء مادية مهمة مثل الحصاد، كما تؤثر أيضا على أمور غير ملموسة مثل المزاج العام للأفراد المرتبط بسلوكيات البيع والشراء والعمل.. مما يخلق التقلبات التى يتم ملاحظتها. ولما كانت تلك الظواهر تتميز بطبيعة دورية موسمية، فإنه من الطبيعى أن تحدث الدورات الاقتصادية.
فى هذا السياق الذى تقدم، قام «جيفونز» بالربط بين إحدى الدورات الاقتصادية بالبقع الشمسية Sunspots فى أعوام (1866، 1875، 1884) كما قام «هنرى مور» بربط إحداها بالطقس (عام 1914)، كما ربط بين دورة اقتصادية وبين موقع كوكب الزهرة (عام 1923). وبالمثل قام «جوهان أكيرمان» بتفسير مذهل للعلاقة بين دورات اقتصادية أطول نسبيا والتأثير الواضح لسلسلة من الدورات الموسمية القصيرة المتأثرة بالطقس (فى عامى 1928 و1932).
وفى عام 1933 قدم «فيشر» نظرية الدين ــ الكساد «debtــdeflation» theory والتى مضمونها أن تراجع الأسعار فى أوقات الكساد يؤدى إلى إعادة توزيع الثروة من الدائنين إلى المدينين. فانخفاض الميل للاستهلاك للمدينين يؤدى حتما إلى تراجع الطلب الكلى ومن ثم الناتج المحلى.
ولكن لم تظهر التوقعات كمسبب رئيسى للتقلبات إلا فى كتابات «ألبرت أفتاليون» و«بيجو» و«جون كلارك». فنظريات «أفتاليون» فى هذا المجال تدور حول اعتبار نمو وتوسعات الاستثمار لا تتوقف فقط على العوامل الحقيقية مثل التغيير التكنولوجى ووفرة الأموال المتاحة للإقراض، ولكنها تتوقف أيضا على التوقعات الخاصة بطلب المستهلك ومن ثم بالأرباح. القرارات الاستثمارية إذن تبنى على طلب المستهلك، إلا أن طلب المستهلك يتقلب وفقا لقاعدة اقتصادية شهيرة هى «تناقص المنفعة الحدية» (مفادها للتبسيط أن المنفعة التى يحصل عليها المستهلك من ثمرة البرتقال الأولى التى اشتراها أكبر من منفعة الثمرة الثانية.. وهكذا). فكلما زاد إنتاج السلع الاستهلاكية قل الطلب عليها، وبالتالى فإن المنشأة يجب أن تنتبه إلى المرحلة التى تمر بها الدورة الاقتصادية قبل اتخاذ أى قرار استثمارى. فارتفاع الطلب على شراء الشقق السكنية فى فترة زمنية معينة، ربما يدفع المستثمر العقارى إلى تشييد مزيد من العقارات والمنتجعات السكنية. ولكن بانتهاء بناء تلك الوحدات الجديدة، ربما يكون الطلب عليها قد انخفض نسبيا مقارنة بمستوى الطلب عند اتخاذ القرار الاستثمارى، وهو ما نلاحظه اليوم من احتمال تضخم فقاعة عقارية كبيرة فى مصر. فالمراحل المختلفة للاستثمار والإنتاج هى التى تخلق الدورات الاقتصادية عند «أفتاليون».
***
المؤسسات تصدر قرارات الاستثمار عندما يكون الطلب مرتفعا، وبالتالى فإنها تنتج سلعا رأسمالية (آلات ومعدات...) استعدادا لاستخدامها فى المستقبل القريب، فى الوقت الذى يكون الطلب على السلع الاستهلاكية مرتفعا. وبانتهاء تراكم رصيد كبير من السلع الرأسمالية لدى المؤسسات الخاصة والعامة، فإن إنتاج السلع الاستهلاكية يزداد بصورة كبيرة تفوق الطلب عليها، وذلك فى ضوء تراجع المنافع الاستهلاكية مع زيادة المعروض، وعندئذ تحدث التخمة التى يبدأ بعدها الاتجاه الهابط فى الدورة الاقتصادية، ممثلا فى كساد الأسواق. وحقيقة ثبات رأس المال تعد معلما مهما فى تحليل «أفتاليون». فخلال الاتجاه الهابط للدورة الاقتصادية لن يحدث أى إحلال فى السلع الرأسمالية القائمة نظرا لكونها حديثة نسبيا، وبمرور الوقت تبلى تلك السلع وينخفض إنتاجها تحت مستويات الطلب الاستهلاكى، ومن ثم تبدأ موجة من الإحلال لتلك السلع الرأسمالية مما يرفع الدخول لأعلى مرة أخرى. تلك الدخول الجديدة تزيد من طلب المستهلكين على السلع الاستهلاكية مرة أخرى، مما يدعو إلى موجة جديدة من الاستثمار فى سلع رأسمالية جديدة. وسوف تستمر هذه العملية لفترة من الزمن حتى يرتفع الإنتاج الاستهلاكى مرة أخرى فوق مستويات الطلب وبالتالى يتكرر الاتجاه الهابط للدورة مرة أخرى، وهكذا.
وبينما أشار كل من «مالتس» (عام 1820) و«كارل ماركس» (عام 1910) إلى أن تقلبات الإنتاج يمكن إرجاعها إلى اختلال مؤقت فى الطلب على السلع (فيما عرف بالتخمة العامة general glut) فإن أيا منهما لم يشر إلى دورية أو انتظام تلك التقلبات. وقد قدم «سيسموندى» (عام 1819) شكلا من أشكال الانتظام فى تلك التقلبات، وكذلك فعل «جون ستيوارت ميل». ولكن نظرية تدنى الاستهلاك المرتبطة بالدورات الاقتصادية لم يتم بلورتها إلا على يد الاقتصادى البريطانى «جون هوبسون» فى كتابه النظام الصناعى (عام 1910).
***
وملخص نظرية «هوبسون» أنه فى حالة النمو والتوسع ترتفع الدخول النقدية للأفراد، ومن ثم يرتفع الاستهلاك ولكن ليس بكامل الزيادة فى الدخل، بما ينطوى على زيادة الادخار. تلك المدخرات يتم استثمارها بما يؤدى إلى زيادة الناتج والطاقة التى تعمل بها الصناعة. لكن نظرا لزيادة الاستهلاك ببطء نسبى مقارنة بزيادة الطاقة الإنتاجية، فإنه يتولد فائض عرض للسلع، فما يتم إنتاجه لا يجد من يستهلكه. هذا الخلل بين العرض والطلب ينتج عنه تراجع فى الإنتاج، يصاحبه تراجع فى الدخول. مع تراجع الدخول يتراجع الادخار بالنسبة للاستهلاك، مما يرفع من نسبة هذا الأخير فى الدخل. ينتج عن ذلك فى النهاية أن يلحق الاستهلاك بالناتج ويبدأ التصحيح فى الخلل الذى نشأ بين العرض والطلب.
بالنسبة لأتباع تلك النظرية (منهم الأمريكيان «ويلارد فوستر» و«وليام كاتشينجز»)، فإن الادخار يلعب دورا حيويا فى الآلية السابقة. فهو عنصر إيجابى لأنه يحرك الاستثمارات، وهو أيضا عنصر سلبى عندما تؤدى تلك الاستثمارات إلى خلق فائض فى المعروض السلعى. وتجدر الإشارة هنا إلى أن أهم نظرية لتدنى الاستهلاك كانت للاقتصادى الإنجليزى المعروف «كينز» حيث تناولها فى نظريته العامة الشهيرة.
***
نظريات كثيرة ودراسات مدارها جميعا حتمية تعاقب الدورات الاقتصادية، وتفاوت حجمها، ودور النظام المصرفى والعامل النفسى والسلوكى بها... مما يؤكد على ضرورة توافر أدوات علمية ونماذج للتنبؤ بها على نحو دقيق. ولأن الدولة قد أصبحت فى كثير من الأسواق المستثمر الأكبر من حيث حجم المشروعات، وحجم الإنفاق على السلع الرأسمالية بما فى ذلك إنشاء وتطوير المصانع، ومحطات الطاقة، والمجتمعات العمرانية والمدن الجديدة، حتى أصبحت وزارة الإسكان المطور العقارى الأكبر فى السوق، فإن تقلبات السوق العقارية ــ على سبيل المثال ــ باتت مسئولية مهمة للحكومة المصرية متمثلة فى مجموعتها الاقتصادية وعلى رأسها وزارة التخطيط، التى تضطلع بمهام وزارة الاقتصاد الغائبة فى التشكيل الحالى للحكومة. التنبؤ بالدورة الاقتصادية يساعد على وضع الضوابط اللازمة لإدارة مخاطرها والتعامل معها بأقل الأضرار، كما يساعد على التخطيط المناسب للتوازن المرغوب بين العرض والطلب فى مختلف الأسواق.
ولأن القارئ الكريم قد يشق عليه كثير من المصطلحات فى هذا المقال، فقد حرصت على استخلاص فكرة عامة بسيطة بغير إخلال، وعلى توجيه رسالة مباشرة لصانع القرار الاقتصادى كى يلتفت إلى سرعة تعاقب الدورات الاقتصادية فى عصرنا هذا نتيجة لسرعة تدفق المعلومات، وزيادة كفاءة الأسواق، ملتمسا إعمال أدوات التنبؤ والتحليل بصورة أكبر فى الأعوام القادمة.