المظلومة
محمود قاسم
آخر تحديث:
الجمعة 1 مايو 2020 - 9:10 م
بتوقيت القاهرة
لا أعرف من أين استقى المخرج وكاتب السيناريو محمد عبدالجواد فيلمه المظلومة عام 1950، وهو المأخوذ عن مسرحية «امرأة بلا أهمية» تأليف أوسكار وايلد التى تنتمى إلى نهاية القرن التاسع عشر حيث عرضت لأول مرة عام 1892.
فالمسرحية لم تتحول إلى أفلام سينمائية معروفة فى مصر، كما أن معلوماتى تقول إن وايلد لم نقرأ أعماله بالعربية إلا مع نشاط ترجمة المسرح العالمى فى الستينيات، ومنها هذه المسرحية، وأغلب الظن أن المخرج كان يقرأ النصوص باللغة الإنجليزية، وأخرج فيلمه «الدنيا لما تضحك»، عن رواية لمارك توين فى عام 1954، وهى السنة نفسها التى قدمت فيه السينما الأمريكية فيلم «مليون جنيه» عن المصدر نفسه، وهو الذى اقتبس بعض الروايات فى أفلام كتبها أو أخرجها، دون أن يذكر أبدا مصادر أفلامه، ومنها «قبلنى فى الظلام»، «الستات مايعرفوش يكدبوا»، و«زوج فى أجازة» المأخوذ عن «هرشة السنوات السبعة»، ومن المهم أن نذكر أنه استعان بعز الدين ذو الفقار ليكون مساعدا له فى الأربعينيات، وفيما بعد تبادل الاثنان الأماكن وصار عبدالجواد مساعدا لتلميذه فى أفلام منها «الشموع السوداء»، لكن لاشك أنه ذهب فى «المظلومة» إلى النص الأدبى بدلا من مشاهدة الفيلم المقتبس، فالمسرحية حسب المصادر تم إنتاجها فى ألمانيا التى لم يكن يأتينا منها أفلام تجارية، وهو أول من تنبه فى السينما المصرية إلى عبقرية وايلد، باعتبار أن السينما المصرية قدمت الكثير من مسرحياته فى طبعات مصرية، ومنها «أهمية أن يكون الإنسان جادا» التى صارت «فتى أحلامى»، و«مروحة الليدى وندرمير» التى شاهدناها فى «امرأتان»، بينما لم تلتفت إلى روايته الرائعة «صورة دوريان جراى»، وعلى كل فإن فيلم «المظلومة» هو واحد من الأفلام التى ظُلمت فى السينما المصرية، رغم أن موضوعه لديه أفضلية لدى صناع الأفلام فى بلادنا.
المتابع لمسرحيات وايلد يلاحظ أنها جميعا تدور فى المحيط الأسري؛ حيث العلاقات متشابكة بين الأم وابنتها فى «مروحة الليدى وندرمير» تربت الصغيرة بعيدا عن أمها المطلقة، لا تعرف حقيقتها أبدا، وتحدث بينهما مواجهة بسبب علاقات مع رجال، وفى النهاية فإن الأم تضحى من أجل ابنتها وتعترف أن المروحة التى تم العثور عليها فى بيت العاشق تخصها هى، وفى «امراة بلا أهمية» فإن الابن كمال تمت تربيته بين أبوين آخرين، دون أن يعرف الحقيقة، وضحت الأم بسمعتها وهى تعترف لعشيقها القديم شاكر بك أن الموظف الذى طرده هو ابنهما معا، وأنه لا يعرف الحقيقة، وفى مسرحية «أهمية أن يكون الإنسان جادا» فإن الشاب فى خصومة مع عمه الذى يسوف فى تسليمه الميراث، ولذا فإن الأشخاص موجودون داخل جدران البيوت التى يعيشون فيها، لا يخرجون منها، حتى فى الأفلام، وهنا فى «المظلومة»، فإن المشهد الأخير بين الأم الفنانة إلهام وحبيبها القديم شاكر بك يعتبر بمثابة مفتاح العمل، أو المشهد الأساسى، فهناك مواجهة بين رجل وامرأة جمعهما الماضى، الرجل الذى كان لاهيا فى شبابه، يؤتمر من أمه صار الآن شخصا مسئولا مرموقا، وبعد فعلته مع الخادمة، لم يتزوج قط، ويبدو أنه ظل راهبا طوال عشرين عاما حتى أتت المرأة من الماضى المنسى، لتخبره بالحقيقة التى لا يعرفها، الحقيقة أن السنوات قد تطول قليلا، ولذا فإنه من السهولة تحويل هذه النصوص إلى أفلام، عدد شخوصها قليل للغاية، خاصة المرأة التى كانت بلا أهمية، التى لا تغيب عن المشاهد منذ بداية الفيلم، وهى تهرب من حفل زفافها إلى الرجل الذى أخطأت معه، ثم تهرب من القرية كلها بعد أن صدمها حبيبها، وتركب القطار إلى المدينة، ولدت ابنها السفاح، ومنحته لصديقة لها لم تنجب، تناديها أختى، وقبلت العمل كمطربة، وعانت كى تتولى الصرف عليه، وقد تربى الصغير على أن المرأة خالته، أما شاكر الذى يجسده سراج منير، فهو المعادل للورد اينينجورث عند وايلد، فقد غاب عن المشهد ليعاود الظهور فى نهاية المشاهد، وبالتالى فإننا أمام فيلم تحمل مسئولياته عقيلة راتب وحدها فى البطولة المطلقة الوحيدة طوال حياتها، وقد صار الرجال هامشيين، منهم رجل ثرى اعتبرها ابنته التى ماتت لشدة الشبه بينهما، ومنحها ثروته قبل أن يموت، وقد لعبت الدور وهى فى الرابعة والثلاثين، وقامت بدور الأم للممثل كمال حسين هو أصغر منها بسنوات قليلة، والسبب فى ذلك افتقادها جسد غصن البان الذى تمتعت به ممثلات أخريات مثل مديحة يسري، وكاميليا وسامية جمال، لتصير بعد ذلك أكثر الممثلات المتميزات فى تجسيد دور الأم بنت الطبقة الراقية، فى أفلام مثل «أيام وليالى» و«غريبة»، و«لا تطفئ الشمس» و«عيلة زيزى».
إذن قد ينتابك الإحساس أنك تشاهد مسرحية، بسبب الحوارات الطويلة فى أماكن ضيقة كالبيوت، ومكتب شاكر بك، وأن كل ما فعله كاتب السيناريو أن ذهب بالمرأة لتعمل مساعدة لفنانة فى صالة للسهر، ويعرض عليها صاحب الصالة أن تغنى بصوتها، فتحقق نجاحا، ويحاول الفيلم عدم لمس شرف المرأة التى ستظل محتفظة بعفتها، وأن الرجل الذى دخل حياتها وقام برعايتها تعامل معها على أنها أشبه بابنته التى ماتت صغيرة فى السن، وكأنها تستحق أن تكون جديرة بالرجل الذى تخلى عنها، وفى هذا تتقارب المواقف الاجتماعية الأيرلندية والمصرية، فى أن المراة أربوتنوت أو إلهام التى كانت يوما هند، جديرة أن تكون أما لهذا الشاب البرىء، وزوجة لرجل الأعمال، الذى تخلى عنها يوما، وأيضا أن تكون حماة للفتاة سامية زميلة الكلية لكمال، وهى أيضا ابنة شاكر بك، الذى يرفض أن يزوجها له عندما طلبها بعد أن صار موظفا فى شركته، ولعلها فرصة الممثلة عفاف شاكر (شقيقة شادية) فى أحد أطول أدوارها لتتحقق من ملامحها.
يجب ألا يفوتنا أنه فى تلك الفترة من الزمن كانت السينما تمنح فرص البطولة لشباب من الوجوه الجديدة، كانت بمثابة فرص وحيدة للكثير منهم فإما أن يهجروا السينما إلى الأبد مثل شباب شاهدناهم فى أفلام: «كل بيت له راجل»، و«ولدى»، هناك فرصة للبطولة منحت إلى صلاح نظمى فى «هذا جناه أبى»، وأيضا كمال حسين فى «المظلومة» لواحد من تلاميذ زكى طليمات، هو الممثل الذى لم يستمتع بهذا الشرف مجددا فى حياته.