نظرة من مصر على الانتخابات الأوروبية
إبراهيم عوض
آخر تحديث:
السبت 1 يونيو 2019 - 8:40 م
بتوقيت القاهرة
يختلف المراقبون على أهمية البرلمان الأوروبى، حيث إن السياسة مازال الجانب الأعظم فيها تدور رحاه فى داخل كل دولة من الدول الأعضاء فى الاتحاد الأوروبى، وعلى ذلك فإن جل الرقابة على السلطات التنفيذية والتشريع يجرى فى داخل البرلمانات الوطنية. سبب ثان للشك فى أهمية البرلمان الأوروبى كان ضعف مشاركته فى عملية اتخاذ القرار حتى فى الموضوعات التى تدخل فى إطار اختصاص الاتحاد. وأخيرا فإن المشككين فى أهمية البرلمان الأوروبى كانوا يستدلون على صحة تقديرهم بضعف المشاركة فى انتخاباته، باعتبار أن ضعف المشاركة تعبير عن عدم اقتناع مواطنى الدول الأعضاء فى الاتحاد بجدواه. هذه الحجج وجيهة ولكن يمكن الرد عليها بالترتيب العكسى لها بأن معدل المشاركة فى انتخابات الأسبوع الماضى قد تخطى الخمسين فى المائة من الناخبين، وأنه باستثناء فرض الضرائب، وهو ولا شك استثناء مهم، أصبح البرلمان يلعب دور المشرع المشارك فى كل القوانين الصادرة عن الاتحاد، بما فى ذلك ميزانيته، فضلا عن ضرورة تصديقه على تعيين رئيس المفوضية الأوروبية وأعضائها. الطرف الآخر فى عملية التشريع هو مجلس وزراء الاتحاد الممثل للدول الأعضاء وهو كان ينفرد بالتشريع فى بداية عملية التكامل الأوروبى ثم أخذت مساحة احتكاره له فى الانكماش لصالح البرلمان الأوروبى. أما عن الحجة الأولى، فبالفعل مازال أغلب السياسة يدور فى داخل كل دولة وطنية، ومع ذلك فإن الموضوعات التى تنصب عليها السياسة والتحالفات التى تتخذ مواقف منها تضطلع وبشكل متزايد بطابع أوروبى يتخطى كل دولة أوروبية على حدة. انظر إلى اليمينيين القوميين المتطرفين المشككين فى التكامل الأوروبى، المناهضين للمبادئ والقيم التى قام عليها ومنها الانفتاح والتشابك فى العلاقات الذى يجعل من المستحيل نشوب حرب جديدة فى القارة الأوروبية التى لم تشهد قارة أو منطقة أخرى فى العالم ما خبرته هى من مذابح. انظر إلى هؤلاء القوميين ستجد أنهم، وفى تناقض تام مع ما يناهضوه، يمدون حبال التعاون فيما بينهم، الفرنسيون والإيطاليون والألمان والمجريون وغيرهم، يخوضون حملات انتخابية مشتركة، وينشئون حركات أوروبية تدخل البرلمان فى مجموعات معا لتؤثر فى القرار فيه.
***
لأول مرة منذ بدء إجراء الانتخابات المباشرة للبرلمان الأوروبى فى سنة 1979 يفقد المحافظون من أحزاب اليمين التقليدى، أو يمين الوسط، مثل الديمقراطيين المسيحيين الألمان، وحزب المحافظين البريطانى، والجمهوريين الفرنسيين، وحزب الديمقراطية الجديدة اليونانى، والحزب الشعبى الإسبانى، من جانب، والاشتراكيون الديمقراطيون، من جانب آخر، الأغلبية المطلقة التى كانوا يتمتعون بها فى العقود الأربعة الأخيرة. يمين الوسط، المنتظم فى البرلمان الأوروبى فى حزب الشعب الأوروبى، كان وراء فكرة التكامل الأوروبى وهو منشؤه، ثم كان والاشتراكيون الديمقراطيون المحركين الرئيسيين له. هذان الاتجاهان السياسيان المناصران للتكامل الأوروبى تراجعا، فلم ينج من تراجع الاشتراكيين الديمقراطيين غير الاشتراكيين الإسبان والبرتغاليين ونوعا ما الإيطاليين. فى مهد الأفكار الاشتراكية، ألمانيا، تراجع الحزب الاشتراكى الديمقراطى وسجل أسوأ نتائج له فى تاريخه فى انتخابات البرلمان الأوروبى وفى الانتخابات الإقليمية التى خسر معقلا تاريخيا له فيها. يلاحظ التلازم بين نتائج الانتخابات الأوروبية ونتائج الانتخابات الإقليمية والبلدية التى أجريت فى عدد من الدول الأعضاء فى نفس الأيام وهو تبرير إضافى لمتابعة النتائج الأولى والاهتمام بها. ثلاثة اتجاهات سياسية هى التى حققت تقدما وهى الخضر، أى الأحزاب المدافعة عن البيئة والمعنية بالتغير المناخى، وأحزاب الوسط والليبراليون ومن شابههم، مثل حزب الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون، ومزيج الشعبويين وأحزاب أقصى اليمين القومى فى فرنسا، وإيطاليا، وألمانيا، وبولندا، وفنلندا، والنمسا، والدانمارك وغيرها. ليس هذا المقام لتحليل نتائج الاتجاهات والأحزاب المختلفة وفى كل بلد بالتفصيل. يكفى عدد من الملاحظات مثل أن تقدم الخضر كان واضحا بشكل خاص فى ألمانيا حيث كانوا الحزب الثانى بعد الديمقراطيين المسيحيين، وبعدها فى فرنسا. وأن تقدم الوسط والليبراليين يرجع أساسا إلى النتيجة التى حققها حزب الرئيس الفرنسى، وأن أقصى اليمين القومى رغم تقدمه النسبى بعيد جدا عن الأغلبية المطلقة فهو لم يفز إلا بمائة واثنين وسبعين مقعدا من إجمالى 751 مقعدا. أقصى اليمين القومى والشعبوى حقق أفضل نتائجه فى إيطاليا وفرنسا وبولندا والمجر حيث حل حزبا أولا فى البلدان الأربعة، إلا أنه مع ذلك قد يصعب على هذه الأحزاب أن تعمل معا فحزب القانون والعدالة البولندى مستاء من العلاقات الوثيقة بين الرابطة الإيطالية والتجمع الوطنى الفرنسى، من جانب، وروسيا والرئيس فلاديمير بوتين، من جانب آخر، وهو استياء يشاركه فيه أحزاب أخرى فى أقصى اليمين فى وسط أوروبا وفى شمالها. بذور الخلاف والاختلاف والصراع موجودة فى نفس الفكر القومى لهذه الأحزاب، والتاريخ على ذلك شاهدٌ.
***
إشارة خاصة يستحقها رئيس الوزراء المجرى فيكتور أوربان. هو رائد أقصى اليمين القومى الذى يُحتَذَى به وهو اشترك فى الحملات الانتخابية مع نظرائه فى إيطاليا وفرنسا وألمانيا وغيرها ولكنه لا يرغب فى انضمام حزبه إلى أى من المجموعتين البرلمانيتين للقوميين والشعبويين بل هو يريد العودة إلى مجموعة حزب الشعب الأوروبى، أى مجموعة المحافظين التقليديين، التى استبعد منها نتيجة لأفكاره وممارساته. هدفه من ذلك خبيث وهو التقريب بين يمين الوسط واليمين التقليدى، من جانب، وأقصى اليمين، من جانب آخر، حتى يفوز بها جميعا لأفكاره القومية والعنصرية المناقضة للحرية والديقراطية والتعايش. يكفى للدلالة على ذلك تصريحه يوم الأحد الماضى عند إعلان نتائج الانتخابات أنه مستعد للتعاون «مع كل من يريدون وقف الهجرة». الهجرة التى يقصدها هى هجرة العرب والشعوب غير البيضاء، المسلمين منهم أولا وغير المسلمين، ومن بينهم المصريين. وجه السخرية هو أنه لا توجد فى المجر هجرة من شعوبنا. التعصب لا يحتاج إلى منطق يستند إليه.
لن يكون سهلا التقريب بين كل تيارات اليمين كما يريد رئيس الوزراء المجرى لأن بعض أحزاب يمين الوسط واليمين التقليدى، مثل الديمقراطيين المسيحيين الألمان، يرفضون تماما التعامل مع أقصى اليمين. دروس التاريخ المرير لألمانيا يحول دون هذا التعامل. وعلى أى حال، حتى إن اجتمع يمين الوسط واليمين التقليدى وأقصى اليمين فهم لا يصلون إلى الأغلبية المطلقة فى البرلمان الأوروبى وهى 376 نائبا، وهى الأغلبية الضرورية لتعيين رئيس المفوضية الأوروبية ثم للتصديق على تعيينها كاملة بكل أعضائها. ثلاثة ائتلافات لتحقيق الأغلبية ممكنة، الأول يتكون من اليمين التقليدى ويمين الوسط المحافظ، والاشتراكيين الديمقراطيين، والخضر؛ والثانى من اليمين التقليدى ويمين الوسط المحافظ، والاشتراكيين الديمقراطيين، والوسط والليبراليين؛ والثالث من هذه الاتجاهات الأربعة المناصرة للتكامل الأوروبى.
***
نصل إلى موقفنا من التطور فى السياسة الأوروبية الذى تكشف عنه نتائج انتخابات البرلمان الأوروبى وعلى ضوء الاستعراض السريع أعلاه. لا بد من الاستمرار فى العمل مع التيارين الكبيرين فى السياسة الأوروبية وهما اليمين ويمين الوسط المحافظ التقليدى، والاشتراكيين الديمقراطيين، بالرغم من تراجعهما. هما مازالا فى قلب السياسة الأوروبية وسيكون لهما نصيب معتبر من مناصب المفوضية الأوروبية فضلا عن منصب رئيس المجلس الأوروبى، أى المجلس الذى يجمع رؤساء الدول والحكومات الأعضاء فى الاتحاد الأوروبى. الشىء نفسه ينطبق على تيار الوسط والليبراليين الذى يمكن أن تكون له الكلمة الفصل فى اختيار من يشغل المناصب المذكورة بل وقد يفوز إما بمنصب رئيس المفوضية أو بمنصب رئيس المجلس الأوروبى. ثم إن هذه التيارات الثلاثة مازالت تحكم أو تشترك فى الحكم فى كل الدول الأعضاء فى الاتحاد الأوروبى باستثناءات أربعة هى المجر، وبولندا، وكرواتيا، وإيطاليا. الأحزاب الحاكمة فى هذه الدول الأربع مع غيرها فى عدد من الدول الأعضاء فى الاتحاد الأوروبى تشكل التيار الرابع فى البرلمان الأوروبى والمتصاعد فى السياسة الأوروبية. هذا التصاعد وخصوصا عقيدة هذا التيار القومية المنغلقة المتمركزة على نفسها، التى تدعو إلى أن تختص كل دولة بنفسها وبشعبها، ولا تعبأ بقواعد للتعاون الدولى ولا بحقوق للإنسان، قد يغرى البعض فى بلداننا بالتعامل معها وبخصِها بالصداقة على أساس أنها ستتركنا وشأننا، تحترم سيادتنا المطلقة على كل ما يتحرك أو لا يتحرك على أراضينا، مثلما يمارسون هم سيادتهم المطلقة فى أراضيهم. فى واقعه هذا ليس احتراما لنا وإنما استعلاء علينا وازدراء بنا وإبعاد لنا عنهم. انظر إلى مواقف أحزاب وحركات أقصى اليمين من السكان من أصل عربى ومن المهاجرين واللاجئين العرب والأفارقة فى دولها، انظر إلى هذه المواقف فى غرب أوروبا وشمالها ووسطها وشرقها وجنوبها. التمركز على الذات واختصاص كل دولة بنفسها وشعبها وعدم الاعتداد بقواعد التعاون الدولى ليس فيه رغبة فى إعادة النظر فى هذه القواعد فى اتجاه أكثر عدالة لنا. الحقيقة هى أن هذه الاتجاهات اليمينية المتعصبة أنانية ولا تعبأ بالعدالة بل هى تعتقد أن التفوق والتميز حق طبيعى لها تعمل على تعزيزه.
يبقى الخضر فى أحزاب البيئة، وأهم ما يميزهم هو أنهم يعتقدون أن النظام الاقتصادى الدولى، بعمليات الإنتاج التى انطوى عليها، هو المسئول عن تدهور البيئة والتهديدات التى تحيق بها. لذلك هم يريدون إدخال تغييرات تتفاوت فى جذريتها فى طريقة عمل النظام الاقتصادى العالمى والاقتصادات الوطنية المكونة له. لأن طريقة عمل الاقتصاد الدولى فى القرون الثلاثة الماضية على الأقل لم تكن فى صالحنا، وهى مسئولة إلى حد لا يستهان به عن تخلفنا، فإن أى تغيير فيها من مصلحتنا، خاصة إن اشتركنا فى صياغته. الخضر لم يصبحوا بعد تيارا رئيسيا فى السياسة الأوروبية ولكنهم فى تصاعد سوف يستمر خاصة فى غرب أوروبا وشمالها. فى مصاحبة هذا التيار فى تقدمه مصلحة مؤكدة لنا. قد تكون واحدة من المشكلات فى سبيل ذلك هى أن البيئة أولوية متأخرة فى بلداننا، إن كانت أولوية أصلا. غير أن هذا ليس مصيرا محتوما بل هو اختيار يمكن تبديله.
من منظور مصرى، وكذلك عربى ولشعوب الجنوب، فى أوروبا وفى غيرها مصلحتنا تكمن فيمن يدعون إلى التعاون والانفتاح والمساوة والعدالة بين البشر.