100 سنـة طـوارئ
عماد أبو غازي
آخر تحديث:
الأحد 1 يوليه 2012 - 9:35 ص
بتوقيت القاهرة
أصدرت محكمة القضاء الإدارى بمجلس الدولة يوم الثلاثاء الماضى حكمها بوقف العمل بقرار وزير العدل الصادر قبل أسبوعين بمنح سلطة الضبطية القضائية لرجال الشرطة العسكرية والمخابرات الحربية فى عدد كبير من الجرائم المنصوص عليها فى قانون العقوبات، وقد أوقفت المحكمة بذلك ــ مؤقتا على الأقل ــ محاولة الالتفاف على إنهاء حالة الطوارئ والعودة بها من الباب الخلفى.
وكانت حالة الطوارئ قد انتهت بنهاية شهر مايو 2012 عندما لم تطلب الحكومة من البرلمان تجديدها، بعد أن استمرت مفروضة على البلاد دون انقطاع لأكثر من ثلاثين عاما، فقد وافق مجلس الشعب على إعلان حالة الطوارئ فى 8 أكتوبر 1981 عقب اغتيال الرئيس السادات، وربما كان هذا مبررا ومفهوما وقتها، ومن يومها لم يتوقف العمل بقانون الطوارئ حتى 31 مايو الماضى.
وإعلان حالة الطوارئ ــ أو الأحكام العرفية كما كانت تسمى قديما ــ تعنى أن تعيش البلاد فى ظل وضع تأخذ فيه الحكومة سلطات استثنائية تسمح لأجهزة الأمن بعدم الالتزام بالضمانات المنصوص عليها للمواطنين فى الدستور وفى قانون الإجراءات الجنائية، والتى تتعلق بضبط الأشخاص وتفتيشهم والتصنت عليهم ومراقبتهم ومراقبة اتصالاتهم التليفونية وبريدهم دون إذن قضائى، كما تسمح للسلطة باعتقال الأشخاص وحرمانهم من الحقوق المقررة للمحبوسين بقرارات من النيابة العامة أو قضاة التحقيق، الأمر الذى يسهم فى عزل المعتقل عن العالم الخارجى ويتيح لرجال السلطة استعمال وسائل غير مشروعة فى التحقيق ــ لا يجيزها قانون الطوارئ نفسه ــ تصل إلى حد التعذيب الذى يؤدى إلى الوفاة أحيانا، كما تسمح حالة الطوارئ عند إعلانها بمحاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية، أو بمحاكمتهم أمام محاكم استثنائية وليس أمام قضاتهم الطبيعيين، كذلك تسمح حالة الطوارئ للسلطة التنفيذية بمراقبة المطبوعات والصحف ووسائل الإعلام وتعطيلها بغير الطريق القانونى، وتسمح لها أيضا بالتضييق على حقوق سياسية كثيرة كحق الاجتماع والتظاهر.
ورغم أن قانون الطوارئ ومن قبله قانون الأحكام العرفية وضعا مبررات لإعلان حالة الطوارئ وتمديدها، كما وضعا ضوابط يجب الالتزام بها عند سريان حالة الطوارئ، إلا أنه نادرا ما التزمت السلطة التنفيذية بأى من هذه الضوابط، كما غابت المبررات لاستمرار حالة الطوارئ فى السنوات الثلاثين الأخيرة.
وإذا كان فرض حالة الطوارئ على البلاد من عام 1981 إلى عام 2012 كان الأطوال فى تاريخها، والأسوأ من حيث ضحاياها ممن ماتوا تحت التعذيب أو اعتقلوا لسنوات أو انتهكت حرمة حياتهم الخاصة أو قدموا لمحاكمات عسكرية، إلا أنها لم تكن المرة الأولى التى تفرض فيها حالة الطوارئ على مصر وشعبها، فتاريخ هذا البلد مع الطوارئ ممتد وطويل.
يوم 11 يوليو 1882 أعلنت الحكومة المصرية الأحكام العسكرية من خلال برقية أرسلها راغب باشا رئيس مجلس النظار إلى جميع المديريات ونشرت بالوقائع المصرية، وجاء فيها: «حيث ابتدأت الحرب بيننا وبين الإنجليز فبمقتضى القانون تكون الإدارة تحت أحكام العسكرية، والخيول والبغال الموجودة جميعها بالمديريات والمحافظات ترسل لديوان الجهادية بأثمان موافقة على الجهادية فليسرع بالمبادرة فى إرسالها»، كانت المرة الأولى التى تعلن فيها الأحكام العسكرية فى البلاد بعد أن عرفت النظام الدستورى مع الثورة العرابية، وكان المبرر واضحا، حالة الحرب بين مصر وإنجلترا وبدء قصف البوارج البريطانية للإسكندرية صبيحة يوم 11 يوليو 1881، وكان الأمر أقرب إلى إعلان التعبئة العامة، ومع احتلال بريطانيا لمصر ألغى الدستور وقيدت الحريات العامة دون إعلان رسمى لحالة الطوارئ.
وبعد أن قامت الحرب العالمية الأولى فى أغسطس سنة 1914 بأشهر قليلة أعلنت السلطات البريطانية خضوع مصر للحكم العسكرى، فأصدر الجنرال مكسويل قائد جيش الاحتلال فى مصر قرار فى 2 نوفمبر سنة 1914، نشره فى عدد غير اعتيادى من الوقائع المصرية، نصه: «ليكن معلوما أنى أُمرت من حكومة جلالة ملك بريطانيا العظمى بأن آخذ علّى مراقبة القطر المصرى العسكرية، لكى يتضمن حماؤه، فبناء على ذلك قد صار الحكم المصرى تحت الحكم العسكرى من تاريخه».
وبعدها بأسابيع قليلة تم إعلان الحماية البريطانية على مصر وتحويلها إلى سلطنة وعزل الخديوى عباس حلمى وتعيين حسين كامل سلطانا على البلاد تحت الحماية البريطانية. وعاشت البلاد فى ظل الحكم العسكرى والأحكام العرفية ففرضت الرقابة على الصحف وتمت مصادرتها وتعطيلها، واعتقلت السلطات المئات ونفت العشرات خارج البلاد، وقيدت حق المصريين فى السفر للخارج.
ومع نهاية الحرب العالمية الأولى تصدرت المطالبة بإنهاء الأحكام العرفية مطالب الحركة الوطنية المصرية، فعندما ذهب سعد زغلول وعبد العزيز فهمى وعلى شعراوى لمقابلة المعتمد البريطانى يوم 13 نوفمبر سنة 1918 كان إنهاء الأحكام العرفية على رأس مطالبهم، ورغم قيام ثورة 1919، ورغم أن إنهاء الأحكام العرفية كان هدفا من أهدافها، لكن الأمر احتاج لعدة سنوات أخرى كى يتم تحقيق هذا المطلب، وحتى عندما تحقق كان تحقيقه منقوصا.
ففى 28 فبراير 1922 أعلنت بريطانيا استقلال مصر وتحولها لمملكة دستورية مع وضع قيود جعلت من هذا الاستقلال استقلالا منقوصا، وفى 19 أبريل 1923 صدر الدستور المصرى متضمنا فى مادته رقم 155 النص على أنه لا يجوز تعطيل حكم من أحكام الدستور إلا أن يكون ذلك وقتيا فى زمن الحرب أو أثناء قيام الأحكام العرفية وعلى الوجه المبين فى القانون.
ورغم أنه كان من المفترض أن يترك للبرلمان المنتخب إصدار قانون الأحكام العرفية، إلا أن حكومة توفيق نسيم أسرعت بإصدار القانون فى يونيو 1923 قبل انتخاب البرلمان بأشهر قليلة.
وفى نفس الوقت جرت مفاوضات مطولة بين الحكومة المصرية والسلطات البريطانية بشأن إجراءات إلغاء الأحكام العرفية، وطلبت بريطانيا من الحكومة المصرية إصدار قانون يقضى بإجازة كل الإجراءات الاستثنائية التى قامت بها السلطات العسكرية البريطانية طوال سريان الأحكام العرفية.
وبالفعل صدر قانون التضمينات فى 5 يوليو 1923 ونص على إجازة كل ما قامت به السلطة العسكرية منذ إعلان الأحكام العرفية فى نوفمبر 1914 من إجراءات إدارية أو قضائية أو تشريعية، مع حرمان المحكوم عليهم من المحاكم العسكرية البريطانية لجرائم سياسية من حق العفو أو تعديل العقوبة إلا بطلب من لجنة مؤلف من أربعة أعضاء من بينهم قاضيين بريطانيين، كما حرم القانون المضارين المصريين من الإجراءات الاستثنائية من الرجوع بتعويض عن الأضرار التى أصابتهم تحت الحكم العرفى، بينما أعطى هذا الحق للأجانب.
وفى نفس اليوم أصدر اللورد أللنبى القائد العام للقوات البريطانية فى مصر أمرا بإلغاء نظام الأحكام العرفية بعد استمرارها ثمانية أعوام وثمانية أشهر وثلاثة أيام، ليبدأ عصر جديد ينظم فيه إعلان الأحكام العرفية قانون.
فهل كان عصرا جديدا حقا؟