مصطفى سويف.. الأستاذ الرائد
إيهاب الملاح
آخر تحديث:
الجمعة 1 يوليه 2016 - 9:00 م
بتوقيت القاهرة
خسارة كبيرة وألم عظيم ذلك الذى أصاب المجتمع العلمى والثقافى فى مصر والعالم العربى برحيل الأستاذ الجليل الدكتور مصطفى سويف أستاذ ورائد مدرسة مصرية متميزة فى علم نفس الإبداع والدراسات البينية وعلم النفس الاجتماعى. كان اسم المرحوم مصطفى سويف يمثل بالنسبة لى نفس القدر من الهيبة والاحترام والتقدير والإجلال الذى كانت تمثله أسماء محمود على مكى وشوقى ضيف وعبدالعزيز الأهوانى هؤلاء الشموس الذين أضاءوا حياة الجامعة والثقافة العربية بصفة عامة. تعرفت على أعمال مصطفى سويف من كتابه «مقدمة إلى علم النفس الاجتماعى»، و«المدخل إلى الأسس النفسية للتكامل الاجتماعى» (إذا لم تخنى الذاكرة) كنت فى ذلك الوقت مهتما بعلم النفس بشدة، وعن علاقة علم النفس بالأدب، ونمى هذا الشغف ما كنت أقرأه لأستاذى وصديقى شاكر عبدالحميد ومصطفى حنورة وما كان يدرسه لنا خالد عبدالمحسن بدر من مبادئ علم نفس الإبداع.
ثم اكتشفت أن أستاذ هؤلاء جميعا ورائد هذه المدرسة بلا منازع هو الأستاذ الجليل مصطفى سويف، ووجهنى أستاذى سيد البحراوى (مد الله فى عمره ومتعه بالصحة والعافية) إلى قراءة دراسته المرجعية (الأسس النفسية للإبداع الفنى فى الشعر) ودراسته التالية (الأسس النفسية للإبداع الفنى فى الشعر المسرحى)، وكلتاهما كانتا دراستين ممتازتين لفتتا انتباهى مثلا لقيمة كل حرف يخطه كاتب أو مبدع ولو على سبيل «الشخبطة» لأنها قد تكون كاشفة ودالة على فهم طرائق التأليف والتنقيح لديه، كما لفتت انتباهى إلى آليات عملية الخلق والإبداع ودور اللا شعور أثناء عملية الكتابة أو الإبداع الفنى عموما.
صدرت الطبعة الأولى من كتاب «الأسس النفسية للإبداع الفنى فى الشعر خاصة» سنة 1951، عن دار المعارف، ثم صدرت الطبعة الثانية عام 1959، والثالثة فى 1961، وتوالت طبعات هذا الكتاب الرائد بعد ذلك. وأصبح من المراجع التى لا يستغنى عنها دارس أو باحث فى مجال دراسات الإبداع والنقد الأدبى، وفتح مصطفى سويف بهذا الكتاب الباب واسعا لتكوين مدرسة مصرية رائدة فى دراسات علم نفس الإبداع تخرج فيها مصرى عبدالحميد حنورة بدراسته «الأسس النفسية للإبداع الفنى فى الرواية» وشاكر عبدالحميد فى كتابه المرجعى «الأسس النفسية للإبداع الفنى فى القصة القصيرة خاصة».. وغيرها.
يقول جابر عصفور إن حضور هذا الكتاب العلامة تأكد فى ثقافة أبناء هذا الجيل (الذين درسوا بالجامعة فى أواسط الستينيات)، أولا بوصفه المدخل العلمى إلى الدراسات النفسية التجريبية فى ميدان الإبداع بعامة، والشعرى بخاصة، وثانيا، من حيث هو نموذج فريد، رائد، مؤثر فى تجاوب الحقول المعرفية وتفاعلها فيما أصبح يعرف بالدراسات البينية، وثالثا، بسبب تميزه المنهجى الذى كشف عن درجة عالية من امتلاك الأدوات المعرفية والعمليات الإجرائية، وذلك من منظور اجتماعى لا تخطئه العين المدققة.
ولمن لا يعلم فإن الدكتور مصطفى سويف قد شغل منصب رئيس قسم الدراسات الفلسفية والنفسية بكلية آداب جامعة القاهرة عامى 1973 و1974، وهو مؤسس قسم علم النفس بالكلية وأول رئيس له (بين عامى 1974 و1984)، كما أسس أكاديمية الفنون المصرية، وكان أول رئيس لها (بين عامى 1968 و1971) وتعددت اهتماماته البحثية والعلمية فكان من أهم من درسوا ظاهرة الإدمان بالتوازى مع درسه لظاهرة الإبداع الفنى، ونتيجة لريادته ودأبه فى إنتاج الأبحاث والمعرفة، عين عضوا بلجنة الخبراء الدائمة لبحوث تعاطى المخدرات بمنظمة الصحة العالمية، ورئيسا للبرنامج الدائم لبحوث تعاطى المخدرات بالمركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية، ورئيسا للجنة المستشارين العلميين بالمجلس القومى لمكافحة وعلاج الإدمان، وعضوا بالمجلس الاستشارى الدولى للإشراف على دبلوم السلوك الإدمانى بمعهد الطب النفسى بجامعة لندن.
ورغم انضباطية ودقة المرحوم مصطفى سويف الشديدة، فى البحث العلمى والمنهجية التجريبية المعتمدة، فى جانب منها، على الرصد والاستقراء والجمع الميدانى والإحصاء وتحليل المضمون، فإن قراءة بحوثه وكتبه لم تخل أبدا من متعة وفائدة حقيقية، لم أشعر فى لحظة أننى أقرأ شيئا عسيرا على الفهم أو مستغلقا على الإدراك، لغة واضحة ودقيقة، ظاهرة البساط دون تعقيد، كما أن مقالاته التى داوم سنوات طويلة على نشرها عبر صفحات مجلة الهلال، كانت من أهم وأقيم ما كتب خلال العقود الأخيرة لتشريح عديد من الظواهر الاجتماعية والثقافية التى طرأت فى مصر وردها إلى أصولها، وقد جمع طائفة من هذه المقالات فى عدد من الكتب المهمة ومنها «مسيرتى ومصر فى القرن العشرين»، و«مصرنا فى سعيها نحو مستقبل أفضل» (ربما كان هذا الكتاب آخر ما صدر للمرحوم مصطفى سويف).
خلال الفترة (1990ــ2006) كان مصطفى سويف يواظب على نشر مقالاته بانتظام فى مجلة الهلال، وكان معظمها موجها لانتقاد ما هو حاصل فى السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة، وكان حريصا تمام الحرص على أن يحدد فى سياق رصده للظواهر وانتقاده لها، مكمن الداء، وأن يشخصه، ثم يوصى بتوجهات العلاج وكيفية تناولها وسبل حل هذه الأزمات.
بهذا التوجه الاجتماعى الكاشف، والخبرة المتراكمة عبر عشرات السنين، والرؤية التى استصفتها الممارسة البحثية والجامعية، كتب الدكتور مصطفى سويف عن التخلف الاجتماعى، نشأته ومظاهره وأبعاده الأساسية، وعن العلم كضرورة والبحث العلمى كمستقبل بدونهما لا يمكن أن نتجاوز شروط الانتقال والتغيير، وعن العمل كقيمة وحياة وصحة نفسية.
كما كتب عن التعليم وإصلاحه والتعليم الجامعى ومشكلاته، وكان وجها من أبرز الوجوه التى دافعت عن استقلال الجامعة وحرية البحث العلمى، وكان دائما منارة حقيقية تشع علما ورأيا وممارسة أكاديمية فى أرفع صورها وأرقاها. وما زلت على قناعة بأن أحد أهم مفاتيح خروجنا من أزمة التعليم المزمنة تكمن فى كتابات مصطفى سويف الذى أولى هذا الجانب اهتماما كبيرا، وخص مشكلتى التعليم والثقافة بجزء كبير من وقته ودرسه وانشغالاته البحثية، لم يكف سويف عن الكتابة عن أزمة التعليم وجذورها ومشكلاتها والحلول المقترحة أو الرؤى المساعدة فى معالجة هذه الأزمة والخروج بها من النفق المظلم التى دخلته ولم تخرج منه قبل عقود طويلة. اهتمامات مصطفى سويف بالمشكلات الاجتماعية لم ينفصل لحظة عن مسيرته العلمية التى استهلها ببحث عن الأسس النفسية للإبداع انطلاقا من إيمان عميق بالدور الاجتماعى للفن والمعرفة، واستكملها فى بحثه للدكتوراه عن الأسس النفسية للتكامل الاجتماعى الذى صدر فى كتاب عن دار المعارف سنة 1955، وطبع بعد ذلك مرارا.
بالتأكيد، خسرت مصر والعالم العربى والإنسانية عالما جليلا، متواضعا، زاهدا، حمل أمانة البحث وروح الإبداع والكشف والمغامرة طيلة عمره، لم يهن ولم يتخل عن أدواره ولم يغادر هذا البلد، رغم كل شىء.. رغم أى شىء.