ألعاب الدمار الشامل
مدحت نافع
آخر تحديث:
الإثنين 1 يوليه 2019 - 8:20 م
بتوقيت القاهرة
بالتأكيد يجيد الكتابة فى هذا الموضوع من هم أكثر منى إلماما وتخصصا من علماء النفس والاجتماع، لكن أجدنى كأب وكصاحب رأى وقلم مطالبا بالإسهام فى بحث تلك الظاهرة التى باتت تهدد استقرار البيوت وسلامها النفسى.
إنها ألعاب العنف الإلكترونى التى استحوذت على عقول وفراغ أبنائنا تحت أسماء مختلفة، لكنها جميعا تشترك فى أسْر النشء أمام الشاشات، محكمة سيطرتها على جميع حواسه وعناصر إدراكه. فهو يمسك أداة التحكم بين يديه، ويضع السماعات التى يستمع من خلالها إلى زملائه لتنسيق خطط المعارك! وهو يتحدث إليهم عبر الأثير فى نبرة حادة تتصاعد مع الأحداث، ولا يكاد يحرك عينيه من على ساحات المعارك التى امتلأت بالدماء والأشلاء وجعلته خبيرا بأنواع الأسلحة والذخائر كأفضل ما يكون تجّار السلاح ومطاريد الجبل!
ورغم أننى أميل دائما إلى المدرسة الليبرالية فى كل شىء، مع اعتماد مبدأ التوجيه والإرشاد دونما تدخّل مباشر بالمنع أو التقييد، ذلك منهجى فى الحياة ومدرستى فى السياسة والاقتصاد وسائر أمور المعايش، ذلك أيضا ما ربّيت عليه ولدىّ الصغيرين وألفيتهما يستجيبان له فى كل مرة دون استثناء. لكن البيوت لا تتشابه بالضرورة، وكذلك انتشار ظاهرة تلك الألعاب ومفرداتها، وتأثيرها السلبى على أنماط حياة الصغار ومن ثم على الأسرة والمجتمع، لابد أن يتحرك له الجميع فى البيت والمدرسة والنادى... لوضع الضوابط الحائلة دون إفساد ذائقة هؤلاء الأطفال، وضياع آلاف الساعات التى يمكنهم استثمارها فى القراءة أو الرياضة أو حتى الألعاب المفيدة الهادفة التى تنمّى مهارات الطفل وروحه المتسامحة الرياضية، وتعدّه أن يكون فردا صالحا فى وطنه ومجتمعه. قد تتشابه عليك تلك التركيبات اللفظية مع «الكليشيهات» المبتذلة للنصائح التلقينية المباشرة، لكن معذرة أيها القارئ الكريم ذلك مبلغى من العلم فى تلك المسألة.
***
أهون ما تتركه تلك الألعاب من أثر سلبى سلوكى وصحّى على الأطفال الذين صادفتهم واستمعت إلى شكاوى أبويهم، هو طول السهر، والانطواء، وسرعة الانفعال، وسوء معاملة الإخوة والزملاء، وإرهاق الحواس وخاصة السمع والبصر «إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا» ولن يسأل عن ذلك طفل رفع الله عنه القلم، بل هو سائلك أيها الأب غير المبالى وأيتها الأم التى لا تهتم لكل ما حاق بأطفالكما من ضرر مزمن لن تزول أعراضه وتداعياته مع التقدّم فى العمر.
عندما قرأت لأول مرة عن فاجعة الحادث الإرهابى الدموى فى نيوزلندا، والذى راح ضحيته عشرات المصلّين المسالمين، لم أكد أطالع جانبا من الفيديو المصوّر للمذبحة والذى رفعه القاتل اللعين على شبكة الإنترنت حتى تبادر إلى ذهنى لقطات من تلك الألعاب التى أرى دعايتها على مواقع التواصل الاجتماعى تقاطعنى طوال الوقت ودون أسباب مفهومة! لا أستبعد أبدا أن جرائم الكراهية والعنف تجد تدريبا وغذاءً فى تلك المواد الترفيهية الخطيرة، فليس أقل من منعها من المنبع وتجريمها كما يمنع القانون المواد المخدّرة بل وكما تمنع معظم الدول انتشار السلاح. هنا فقط أتفهّم وأتقبل تدخّل الدولة لمنع انتشار تلك الألعاب، نعم المنع القسرى أداة الدولة ذات السيادة للحفاظ على مقوّمات وأسباب وجودها واستمرارها. كيف يكون مجتمعا صحيا ذلك الذى يتعرّض فيه الأطفال الصغار لتعذيب جسدى يسقط على أثره بعضهم ضحايا لارتفاع نسبة الأدرينالين فى الدم بفعل التعصّب المرضى للعبة (كما حدث مؤخرا لأحد الأطفال فى حادث أليم)، ويسقط البعض الآخر ضحايا لعنف زملائهم تجاههم وقد اعتادوا العنف واجترأوا على استخدام أدوات القتل بشكل روتينى للتخلّص من خصومهم دون أدنى شعور بالذنب؟! كيف تربى فى بيتك وحشا تطعمه لحما نيئا وتسقيه جرعات من الدماء بصورة يومية ثم تنتظر منه أن يتعامل بتحضّر فى محيطه الأسرى والمجتمعى؟!
التعامل مع ألعاب الدمار الشامل التى اقتحمت علينا بيوتنا ــ كما تفعل فتنة الدجّال ــ يجب أن يكون عبر جهود مؤسسية بل ودولية لتصنيف تلك الألعاب ضمن المواد المحرّمة الخطيرة والممنوعات التى يعاقب القانون على تداولها وحيازتها وتعاطيها. ليست مصادفة أن يتبارى بعض مطوّرى ألعاب الذكاء الاصطناعى ــ المصنّفين مختلين نفسيا ــ على تطوير ألعاب تدفع الأطفال إلى الانتحار! أى خلل نفسى ذلك الذى يدفع صاحبه إلى استهداف الأطفال، كل أطفال العالم؟! إنها بالتأكيد حزمة من البرمجيات لا تقل خطورة عن أسلحة الدمار.
***
إنك أيها القارئ الراشد لتستغرق فى أحلامك حتى يصعب عليك أحيانا التمييز بين اليقظة والحلم، فما بالك بطفل صغير يسيطر عليه خياله ولا يميّز كثيرا بين واقعه وأحلامه، ما ظنّك أن تخلق له عالما موازيا أشد جذبا وإثارة من واقعه العادى المتكرر؟! إنه ينجذب إلى ذلك العالم، يعيش فيه بوجدانه وكل حواسه، ولا يستغربه لأنه يتحدث خلاله إلى أشخاص حقيقيين من أصحابه الذين تحولوا معه إلى شخوص افتراضية داخل لعبته. إن الطفل يعيش مع أسرته بنصف تركيزه، عقله معلّق بواقعه الافتراضى، ينام فيستيقظ فيكون أول شاغل له اتصال يجريه بزملائه لبدء معركة جديدة، يفتكون خلالها بخصوم يعرفونهم أو يجهلونهم لا فرق، فليس لهم إلى الحربة والمدفع!
إذا رأيت طفلك يزهد فى الرياضة والخروج من المنزل والنشاط الذى كان يحبه... كى يحظى بوقت أطول أمام شاشات ألعاب الدمار الشامل، فاعلم أنه قد صار مدمنا وإن علاجه قد يستدعى تدخّل مختص من الطبيب النفسى، إن لم تكن أنت طبيبه الذى يثق فيك ويأمنك على أسراره وهواجسه، ولم تكن الصلة بينك وبينه طوق نجاته من أرض التيه الافتراضية.
الدول التى علمتنا الحرية والقيم الليبرالية لا يترك فيها الكبار أبناءهم بغير رعاية وإرشاد لدى استخدام وسائط التكنولوجيا الحديثة، ولا يدعون لهم الهواتف الذكية وخدمات الانترنت بل والمواد التلفزيونية بغير إشراف أسرى متصل.
عندما كنت صغيرا كنت أشعر بالذنب لأننى أهدر نظرى أمام التلفاز، وكان أبى ينهانى وإخوتى عن الجلوس أمام التلفاز لفترات طويلة. اليوم وجدتنى أنهى ولدىّ عن الجلوس لساعات طويلة أمام شاشات الهاتف النقّال، والتابلت، والألعاب الالكترونية ولو لصالح مشاهدة الأفلام والمسلسلات عساهما يريحان أعينهما نسبيا!
الجيل الناشئ يحظى بتراكم معرفى كبير، أكبر كثيرا مما أتيح لنا فى صغرنا. الجيل الجديد يملك أدوات العصر، ومفاتيح التقدّم والريادة، لكن هناك من يحاول أن يحوّل تلك الفرص إلى مخاطر لا قبل لنا بها، وأن يوجه تلك الطاقات البنّاءة إلى الهدم والتخريب والإرهاب أو فى القليل إلى التخلّف وإضاعة الوقت، فعلينا أن ننتبه.
رئيس مجلس إدارة الشركة القابضة للصناعات المعدنية
الاقتباس
إن الطفل يعيش مع أسرته بنصف تركيزه، عقله معلّق بواقعه الافتراضى، ينام فيستيقظ فيكون أول شاغل له اتصال يجريه بزملائه لبدء معركة جديدة، يفتكون خلالها بخصوم يعرفونهم أو يجهلونهم لا فرق، فليس لهم إلى الحربة والمدفع!