علم الجهل.. والتفاهة

محمد عبدالمنعم الشاذلي
محمد عبدالمنعم الشاذلي

آخر تحديث: السبت 1 يوليه 2023 - 8:20 م بتوقيت القاهرة

ظهر فى عام 1992 مصطلح جديد فى علم الاجتماع وهو كلمة Agnotology صاغه الباحث الأيرلندى Ian Boal الذى يعمل فى جامعة بيركلى الأمريكية وعرفه بأنه العلم الذى يبحث فى جهد المجتمع لترويج الجهل والشك عن طريق طرح معلومات مغلوطة وغير دقيقة على الجمهور. كما يدرس أساليب نشر الجهل والشك واستخدام ذلك كأداة سياسية، واشتق هذا المصطلح من الكلمة اليونانية القديمة Agnosis أى عدم العلم. وأحيا عالم الأحياء والفيلسوف البريطانى توماس هكسلى هذا المصطلح فى عام 1869 عندما طرح كلمة Agnostic كموقف بين الإيمان بالله والإلحاد لمن يظن أنه أمر لا يمكن التأكد منه أو معرفته.
وقد استخدم هذا العلم بشكل خبيث لتضليل الشعوب وإخفاء الحقيقة، واستخدم لترويج مقولة عبء الرجل الأبيض White Man’s Burden للدفاع عن استعمار أوروبا لأفريقيا وآسيا وإخفاء الفظائع التى ارتكبت ومنها المذابح التى ارتكبها ملك بلجيكا ليوبولد الثانى ملك بلجيكا فى الكونغو وما ارتكبه الرجل الأبيض من فظائع فى الأمريكتين وأستراليا والهند وآسيا وتجارة العبيد عبر الأطلنطى، وما أغفلته أدبيات التاريخ والإعلام والدراما للحلفاء من جرائم ارتكبوها.
كذلك تسليط الأضواء على جرائم المحور أثناء الحربين العالميتين، ولاشك أنها كانت جرائم مروعة لكنها تغفل ما ارتكبه الحلفاء من جرائم لعلها أفدح، منها قصف هيروشيما ونجازاكى بالقنابل الذرية، فضلا عن قصف طوكيو ودرسون وهامبورج بالقنابل التى حصدت مئات الآلاف من المدنين العزل. أيضا تكثيف عرض وقائع المحرقة التى تعرض لها يهود أوروبا على يد الحكم النازى ومنع أى مناقشة موضوعية للتعرف على أبعادها الحقيقية مع التعتيم التام على نكبة شعب فلسطين وما تعرض له من تهجير وقهر واضطهاد.
وفى سنة 2001 نشر الكاتب الكندى Alain Denault الذى يعيش فى مقاطعة كويبك الناطقة بالفرنسية كتاب Noir Canada ــpillage corruption et Criminalite En Afrique «كندا السودا ــ النهب والفساد والإجرام فى أفريقيا». يوضح من خلاله ممارسات كندا وهى ليست من الدول الإمبريالية التقليدية مثل بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وبلجيكا والولايات المتحدة واليابان، ولكن الكتاب فتح صفحات مغلقة ساعد فى إغلاقها ثقافة الـ Agnotology ونشر الجهل عن النهب والاستغلال الذى مارسته شركات التعدين الكندية فى أفريقيا وكيف ساهم البريطانى والرشى فى إفساد المسئولين الأفارقة وكان هذا الكتاب شهادة أخرى على سياسة نشر الجهل والشك، وكيف تعمد الكيانات الاقتصادية والشركات العملاقة على إخفاء الجانب المظلم من نشاطها. وهناك تاريخ طويل لهذه الممارسات، ففى القرن الـ19 عندما بدأ بعض العلماء يحذرون من خطر قطع الأشجار فى أمريكا الشمالية لصالح صناعات بناء السفن وبناء المنازل، شنت شركات الأخشاب حملات صحفية وسياسية تروج بأن الغابات هى سبب الأمراض وتخرج منها الحشرات والآفات المدمرة للصحة والمحاصيل الزراعية. وما زالت هذه الحملات مستمرة بعد قرابة المائتى عام للتجهيل والتقديم على أنشطة قطع الأشجار فى حوض الأمازون وفى أفريقيا لصالح الزراعة والرعى وبناء المدن بشكل يهدد التوازن البيئى. ومن ناحية أخرى، أنفقت شركات السجائر والدخان مئات الملايين بل البلايين لتجهيل الجمهور عن المضار الصحية للتدخين.
• • •
أما فى سنة 2015، نشر آلان دينولت كتابا آخر هاما بعنوان Mediocratie أو التفاهة عن النشاط الممنهج لنشر التفاهة بين الجمهور، ولعلنا نتساءل عن العلاقة بين نشر الجهل ونشر التفاهة. ونؤكد هنا على العلاقة الوثيقة بين الاثنين، فإغراق الجمهور فى التفاهة يشغلهم عن كشف المستور فى الأخبار والتأكد من الأمور التى يسعى الآخر إلى التشكيك فيها وربط الأخبار الجادة ببعضها وتحليلها بإغراقهم فى التفاهات.
لعل نشر التفاهة سمة من سمات المجتمع الاستهلاكى الذى خلق إمبراطوريات إعلانية تسعى لتوجيه أذواق المجتمع وشغلهم بالمقارنة بين البيبسى كولا والسفن أب، والترويج لموضات الأزياء الشاذة والبنطلونات الممزقة. ولعل المراقب فى مصر يرصد بوضوح المساحات التى أفردها الإعلام للخلاف بين مطربة وزوجها، والنتائج التى نجمت عنها والتى جعلت المطربة تحلق شعرها زيرو. ويصدم المراقب إذا قارن بين التغطية الإعلامية لهذا الموضوع وبين متابعة التطورات العلمية الهائلة التى تعد الساحة لتغيرات هائلة فى توازنات القوة العسكرية والاقتصادية وأمثلة ذلك، إطلاق تلسكوب جيمس ويب الفضائى ومسبار باركر الشمسى، وتطورات هائلة فى الهندسة الوراثية والكائنات المعدلة جينيا GMO وفى مجال الكمبيوتر الكمومى وغيرها من المجلات التى غفلنا عنها بسبب سياسات نشر الجهل والتى أدت إلى اختفاء الإعلام العلمى من حياتنا.
لعلنا فى العالم العربى عانينا من ظاهرة الاجينوتولوجيا أكثر من غيرنا، فبسبب الحساسيات السياسية عتمنا على الفظائع التى ارتكبها صدام حسين فى العراق حتى شجعه الصمت على غزو الكويت وما نجم عنه من كوارث فى العالم العربى، وأيضا تغليف حكم معمر القذافى فى ليبيا والفظائع التى ارتكبها بجدار من الصمت والتجهيل حتى سقطت ليبيا تحت ضربات حلف شمال الأطلنطى وتشظت إلى شظايا متحاربة متقاتلة وتكرر الأمر فى سوريا خلال فترة حكم آل الأسد حتى احترقت سوريا وتدخلت كل القوى الإقليمية والدولية، وصار لها موطن قدم فى أرضها. إضافة إلى ما حدث ويحدث فى اليمن وكان من الممكن تلافى هذه المآسى إن لم تسر موجة حجب الحقيقة وتنفيذ سياسة علم الجهل والتجهيل.
التقانات الحديثة التى أتاحت موجات الأثير والتغلغل السيبرانى فى حياتنا وتمكنت من اختراق بيوتنا وعقولنا وأذواقنا لكل من يملك تليفونا محمولا أو كمبيوترا شخصيا. ويتصور حسنو الظن أن ما يبث هو اجتهادات شخصية لمعدومى الثقافة الذين يقتلون وقت فراغهم بثرثرة جوفاء، ولعل نسبة كبيرة من الرسائل على الفضاء الإلكترونى يشغلها هؤلاء، ولكن إلى جانبهم توجد كتائب إلكترونية موجهة من أجهزة ودول وشركات عملاقة أصحاب مصالح وأجندات خبيثة تعمل على خلق رأى عام مضلل عن عمد بنشر معلومات تشكك فى ثوابت اجتماعية ووطنية وقومية واقتصادية وسياسية وتروج لأكاذيب. من ناحية أخرى، مواقع تجتذب من يتلقى رسائلها إلى التفاهة والسطحية لإلهاء جمهورها عن القضايا الهامة والمصيرية وإشغالها عن البحث الجاد عن حقيقة ما يتلقونه من جهل وجهالة.
• • •
التحدى جد خطير ومصيرى ليس فقط على المستوى الوطنى والقومى بل على المستوى العالمى بوجود مخططات للتجهيل والتشكيك فى مسلمات وثوابت بدءا من الأسرة والزواج والترويج للمثلية والفجور والدعوة إلى ما يسمى بالدين الإبراهيمى والتعتيم على مسئولية التغيير المناخى واللعب بلبنات الحياة الأساسية بواسطة الهندسة الوراثية وتصنيع الفيروسات القاتلة الناقلة للأوبئة فى معامل ومختبرات تابعة لحكومات وشركات دولية عملاقة.
التحدى خطير وجسيم ويتطلب وعيا لمواجهة حملات نشر الجهل ونشر التفاهة التى تهدف إلى تمرير أجندات خبيثة وشريرة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved