ماذا بقى من ثورة يوليو؟
فاروق جويدة
آخر تحديث:
الأحد 1 أغسطس 2010 - 9:46 ص
بتوقيت القاهرة
لم يختلف المصريون على شىء كما اختلفوا على ثورة يوليو.. ولم يتفقوا أيضا على شىء كما اتفقوا عليها.. ومنذ قيام الثورة وحتى الآن والمجتمع المصرى بكل فئاته وطوائفه منقسم على نفسه تجاه هذه الثورة.. البعض وضعها فى مرتبة المقدسات.. والبعض الآخر استباح كل شىء فيها.. وللأسف الشديد أن الرؤى المجردة والعاقلة بين هذا وذاك قد غابت فى معظم الأحيان..
فالذين حاربوا ثورة يوليو لا يعترفون بشىء من إنجازاتها.. والذين دافعوا عن ثورة يوليو لم يعترفوا بشىء من خطاياها.. ورغم مرور سنوات طويلة على قيام الثورة إلا أن الأشياء التى اتفقنا عليها فيما يخص أحداث الثورة ورموزها ومواقفها كانت قليلة للغاية وبقيت نقاط الخلاف بين المصريين حول الثورة أكبر كثيرا من كل جوانب الاتفاق.
وفى كل عام يحتفل المصريون بذكرى الثورة وإن كانت صورة الاحتفالات فى السنوات الأخيرة قد تغيرت حتى أن الأجيال الجديدة لا تكاد تعرف شيئـا عن هذه الثورة ولعل ذلك يرجع لأسباب كثيرة.
أول هذه الأسباب أن معظم الأحداث المهمة فى تاريخ الثورة بقيت أسرارا مجهولة لم يقترب منها أحد.. أن المؤرخين لا يجدون الوثائق التى يرجعون إليها ويستندون عليها فى رصد أحداث الثورة ومنجزاتها أو أخطاءها.. أنهم حائرون بين قصاصات الصحف وخطب المسئولين وكتابات فقيرة تتناثر هنا او هناك.
لقد اختفت الوثائق حتى أن البعض يتصور أنه لم تكن هناك وثائق على الإطلاق وان أحداث الثورة كانت قرارات شفوية لا تستند إلى شىء.. وبقيت حيرة المؤرخين وهم يرصدون احداث الثورة ما بين مذكرات لبعض رموزها أو خطب أو خطابات أما التاريخ الحقيقى للثورة فهو غائب تماما بإستثناء عدد من الوثائق ظهرت فى كتابات كاتبنا الكبير الأستاذ هيكل وهو الوحيد تقريبا الذى حصل على بعض هذه الوثائق واستند إليها وهو يكتب أحداث الثورة..
من هذه الأسباب أيضا أن مناهج التعليم عندنا أهملت تماما فى السنوات الماضية تاريخ ثورة يوليو واقتصر الأمر على سطور قليلة فى بعض الكتب فى مراحل التعليم المختلفة تذكر على استحياء قصة حياة الزعيم الراحل جمال عبدالناصر أو صاحب قرار أكتوبر الرئيس أنور السادات.. لا شىء يذكر الآن فى مناهج التعليم المصرى عن حرب 56 وبناء السد العالى والتغييرات الاجتماعية التى شهدتها مصر فى السنوات الأولى لقيام الثورة.
فى يوم من الأيام قررت وزارة التربية والتعليم اعتبار مادة التاريخ مادة اختيارية فى امتحان الثانوية العامة.. ويومها تصديت لهذا القرار الخاطئ وقلت إن تاريخ مصر بكل مراحله يدرس فى دول العالم على أساس أن مصر مهد الحضارات الإنسانية فكيف يصبح التاريخ مادة اختيارية فى أرض الكنانة وعادت مادة التاريخ للمناهج مرة أخرى ولكنها كانت بلا جناحين فقد سقطت منها أحداث كثيرة ورموز أكثر ووجدنا ما يخص ثورة يوليو ليس أكثر من قيام الثورة ونكسة 67 وحتى نصر أكتوبر لا نتوقف الآن عنده كثيرا حرصا على ثقافة السلام..
السبب الثالث أن ثورة يوليو أكلت أبناءها.. لقد اختفى محمد نجيب بعد سنوات قليلة من قيام الثورة ولم يعرف أحد لماذا ظهر ولماذا اختفى ثم كانت قصص اختفاء أخرى جمعت أبرز وجوه الثورة اختفى عبداللطيف البغدادى.. ثم كمال الدين حسين.. ثم زكريا محيى الدين واختفى قبل هؤلاء يوسف صديق وخالد محيى الدين.. وشملت قائمة الغائبين أسماء كثيرة خاصة الأخوان صلاح وجمال سالم.
وبعد رحيل عبدالناصر شهدت مصر أكبر حملة لتشويه تاريخ الرجل وتصور البعض أن ظهور أنور السادات لابد أن يكون على أطلال عبدالناصر.. وحدث ما حدث حتى وجدنا تاريخ أنور السادات بعد ذلك يستباح أمام الحواريين الجدد الذين يحملون المباخر لكل قادم جديد..
كانت هذه الأسباب تقف وراء تشويه تاريخ ثورة يوليو بكل جوانب الضوء فيها والظلال.. لاشك أنه كان من الضرورى أن نضع الثورة أمام محكمة التاريخ ولكن القضية تحولت إلى تصفية حسابات بين تيارين لا ثالث بينهما.. بين الحواريين الذين يدافعون بالحق والباطل والرافضين الذين يدينون أيضا بالحق والباطل..
لا يستطيع مكابر أن يتجاهل منجزات ثورة يوليو وفى تقديرى أنها حققت تغييرات اجتماعية حقيقية فى حياة المصريين.. لقد كانت مجانية التعليم أحد الجوانب الأساسية فى قضية التغيير.. أن معظم الذين يجلسون الآن فى مواقع المسئولين تعلموا فى رحلة التغيير التى شهدتها مصر مع قيام الثورة.. وهناك بلا شك إنجازات كثيرة عاشها الفلاح المصرى عندما صدرت قرارات توزيع الأراضى ورغم الظلم الذى وقع على ملاك هذه الأراضى إلا أن المؤكد أنها لم تطرح فى برنامج الخصخصة أو التوزيع العشوائى لأملاك الشعب على بعض الأشخاص كما يحدث الآن..
على جانب آخر فإن العامل المصرى عاش أزهى فترات حياته مع المكاسب التى منحتها له الثورة خاصة مع خطط التنمية التى شهدت إنشاء عدد كبير من المصانع والوحدات الإنتاجية التى منحت ملايين الفرص للعمالة المصرية..
لا يستطيع أحد أن يتجاهل ملحمة كبرى مثل بناء السد العالى وما ترتب على هذا المشروع من جوانب التنمية فى الكهرباء والزراعة والصناعة وحماية مصادر مصر من المياه..
لا يستطيع أحد أن يتجاهل الدور السياسى المصرى والمكانة الدولية التى حققتها من خلال زعامة عبدالناصر وحركات عدم الانحياز والوحدة الأفريقية والعربية وحركات التحرر وموقف مصر من قضايا الاستقلال الوطنى فى دول العالم الثالث أمام الاستعمار الغربى..
هذه الإيجابيات تبدو الآن مجرد ذكريات فى وجدان بعض المصريين الذين عاشوا هذه الأحداث وتفاعلوا معها وأصبحت جزءا عزيزا من تاريخهم وإن كانت الأجيال الجديدة لا تعرف شيئـا من هذه الأحداث.
ولا يمكن لنا أيضا أن نتجاهل الكثير من السلبيات التى وقعت فيها ثورة يوليو وفى مقدمتها قضية الحريات والديمقراطية.. كانت مصر قد شهدت قبل قيام الثورة بداية مبشرة وواعدة لمناخ ديمقراطى يمكن أن يضع مصر فى سياق الدول التى تتمنع بقدر كبير من الحريات..
كانت التجربة الحزبية فى مصر بقيادة حزب الوفد تحمل الكثير من الأمل فى مستقبل أكبر وأوسع للديمقراطية فى مصر.. وكانت النخبة المصرية قد وصلت إلى درجة من الوعى والنضج والمكانة بحيث أصبحت عاملا مؤثرا فى المناخ السياسى والثقافى والحضارى.. وكانت تجربة طلعت حرب فى بناء الاقتصاد المصرى قد بدأت تؤتى ثمارها إنتاجا وعملا ورخاء.. وكانت هناك ثورة ثقافية فنية واعدة شملت نماذج رفيعة فى إبداع المصريين فى الفن والفكر والأدب والثقافة.. كانت السينما المصرية قد وصلت إلى درجة رفيعة بمقاييس عصرها وكانت الصحافة المصرية قد وصلت إلى درجة من النضج والصدارة.. وكانت جامعة القاهرة قد تحولت إلى واحدة من قلاع الفكر والتعليم على مستوى العالم العربى.. وكانت لدينا نخبة من كبار المفكرين والكتاب والعلماء.
هذه الطفرة التى أكدتها مصر بعد الحرب العالمية الثانية شملت مجالات كثيرة فى الصناعة والزراعة والفكر والثقافة ولا شك أن هذا المناخ كان مهيأ لأن يشهد تجربة ديمقراطية حقيقية كانت مصر تستحقها بكل المقاييس الإنسانية والحضارية.
وفى تقديرى أن الزعيم الراحل جمال عبدالناصر كان قادرا على تحقيق هذا الحلم للمصريين دون أن يدخل فى تجارب الحزب الواحد والحكم الشمولى.. كانت شعبية عبدالناصر قادرة على ان تضعه فى قمة السلطة سنوات طويلة بدون انتخابات مزورة أو استفتاءات مشوهة.. لقد وصلت شعبية عبدالناصر إلى درجة جعلت منه معبود هذه الأمة.. ولو رشح عبدالناصر نفسه فى أى عاصمة عربية وليس مصر لتجاوز كل التصورات والحسابات والنتائج.. تبقى قضية الديمقراطية أكبر خطايا ثورة يوليو.. يضاف لذلك أن معايير اختيار البشر كانت خاطئة فى معظم الأحيان حيث ظهرت منظومة أهل الثقة وأهل الخبرة وقد حرمت هذه المنظومة مصر من الكثير من مواهب وقدرات أبنائها المميزين.
عل جانب آخر فإن غياب الحرية ترتبت عليه آثار كثيرة سيئة كان أخطرها سطوة أجهزة الأمن والتوسع فى سياسة البطش والتسلط تجاه المعارضين كما حدث مع الشيوعيين والإخوان المسلمين حتى وصل ذلك إلى سوء المعاملة مع بعض أبناء الثورة نفسها الذين تم اعتقالهم كما حدث مع محمد نجيب فى سنوات اعتقاله.
حتى الآن لا يوجد تاريخ حقيقى لثورة يوليو ولا يوجد تقييم موضوعى لأحداثها ورموزها بل إن الثورة نفسها فقدت كل مقوماتها فى حياة المصريين فقد تغيرت معالمها وإنجازاتها التى عاشها المصريون حلما وحقيقة.
إذا نظرت إلى خريطة المجتمع المصرى الآن وتساءلت.. ماذا بقى فى حياة المصريين من الثورة.. ربما تجد الكثير من سلبياتها التى غرستها فى حياة هذا الشعب حتى أصبحت حقائق ثابتة.
مازلنا حتى الآن نسير على سيرتها الأولى فى اختيار أهل الثقة حتى وإن كانوا يفتقدون الكفاءة والأمانة والتميز.. ما أكثر المواقع المهمة التى شغلها أصحاب المواهب المحدودة.. ومازالت أساليب النفاق والتسلق والانتهازية تحكم سلوك المقربين من السلطة والباحثين عن مكاسبها.. ومازالت سياسة التسلط تسيطر على دائرة القرار فى مؤسسات الدولة..
ومازالت سطوة أجهزة الأمن تمنع المواطن من ابداء رأيه أو اتخاذ الموقف الذى يراه.. ومازالت سيطرة الحزب الواحد على القرار سواء كان ذلك فى الاتحاد القومى أو الاشتراكى أو حزب مصر أو الحزب الوطنى وما زال شبح الانتخابات والاستفتاءات المزورة يسيطر على الواقع السياسى رغم الحديث الذى لا ينتهى عن شفافية الانتخابات والإصلاح السياسى.
مازالت بقايا ثورة يوليو فى كل هذه الصور ولكن الأسوأ من ذلك أن إيجابيات الثورة وإنجازاتها قد تلاشت تماما.. لقد سقطت منظومة التغييرات الاجتماعية التى غرستها ثورة يوليو فى حياة المصريين.
انتهت مكاسب العمال الذين كانت تقام لهم الأعياد كل عام توزع فيها الأرباح والنياشين ومع انتهاء دور العمال انتهت كثير من الصناعات المصرية الوليدة لم تكن هذه الصناعات على مستوى الجودة العالمى ولكنها كانت توفر للمواطنين سلعا وللعمال أرزاقـا وللدولة موارد وللشعب شيئـا من الإحساس بالكرامة.
إن العمال الآن يتظاهرون أمام مجلس الشعب ومجلس الوزراء يطالبون بحقوقهم وأشباح المعاش المبكر تطاردهم وأصحاب المصانع من المماليك الجدد تطردهم من أعمالهم.. ولم يبق من عمال مصر غير اتحاد متهالك وكتيبة فى مجلسى الشعب والشورى من أصحاب المصالح تحمل لافتة العمال.
انتهت كل المكاسب التى حصل عليها عمال مصر أمام برامج الخصخصة وبيع القطاع العام وإهدار الوحدات الإنتاجية وسيطرة عدد من جال الأعمال على اقتصاد الدولة المصرية.
ضاعت تماما مكاسب الفلاح المصرى وباع ما كان يملك من الأرض بعد أن انتهت أسطورة الزراعة المصرية فلم يعد للقطن المصرى مكانـا فى قائمة الإنتاج ولم يعد له مكانه فى الأسواق العالمية وذهبت مصر بلد الزراعة تشترى الثوم والبصل والفاكهة من الصين والهند والدول العربية.. وسقط الفلاح المصرى ضحية ارتفاع أسعار السماد والبذور والمبيدات وبنك التسليف الزراعى.. وتركت الدولة المحاصيل الزراعية فى بيوت الفلاحين ابتداء بالقمح وانتهاء بالقطن.
وقامت الدولة بأكبر حملة فى تاريخ المصريين لتوزيع الأراضى فى نطاق سياسة التخصيص.. وما بين الخصخصة فى بيع المصانع والتخصيص فى هبات الأراضى كانت كارثة الفلاح والعامل المصرى.. وبجانب هذا خسرت مصر أكثر من مليونى فدان من أجود الأراضى الزراعية الطينية التى تحولت إلى مبانٍ وعقارات أكلت ما بقى من الأرض الزراعية القديمة التى عاش عليها المصريون آلاف السنين ووفرت لهم مصادر الغذاء بكل أنواعها.
ومع انسحاب العمال والفلاحين من الساحة انسحبت مكاسب كثيرة أخرى بصورة غير مباشرة.. لقد ساءت أحوال التعليم حتى أصبحت المجانية التعليمية صورة مشوهة لواقع تعليمى متخلف فى كل جوانبه.. وعادت مصر مرة أخرى إلى سياسة التعليم الخاص للقادرين.. وفقد المواطن المصرى أبسط الحقوق التى منحتها له الثورة وهو تعليم أبنائه وساءت أحوال مؤسساتنا التعليمية وقد كانت يوما تحتل صدارة المؤسسات التعليمية فى المنطقة العربية.
وبجانب هذا ساءت الخدمات الصحية والخدمات العامة أمام ظهور المؤسسات الخاصة التى وفرت خدمات جيدة ولكنها تتطلب تكاليف لا يقدر عليها المواطن العادى.
وكما قامت الثورة تحت شعار القضاء على سيطرة رأس المال على الحكم فقد شهدت مصر زواجا كاملا وإن كان باطلا بين سلطة رأس المال والحكم سواء تمثل ذلك فى الحزب الوطنى الذى يسيطر عليه أبناء الطبقة الجديدة أو بقية مؤسسات الدولة وجميعها تدار من خلال هذا الفكر الذى سيطر على دائرة القرار فى مصر كلها.
إن الأخطر من ذلك كله أن ثورة يوليو التى حاولت أن تعيد قدرا من التوازن فى حياة المصريين فى المساواة والاحساس بالعدالة.. وتكافؤ الفرص أصبحت الآن تاريخا قديما.. لقد عادت ظواهر الانقسام الطبقى إلى الشارع المصرى بأعنف صوره ماديا ومعنويا.. عادت طبقة من الأغنياء الجدد تسيطر على حياة المصريين بينما اتسعت دائرة الفقر لتشمل فئات متعددة.. وهنا تهاوت الطبقة المتوسطة التى كانت يوما العمود الفقرى لهذا المجتمع.. وانقسم المصريون بين سكان المنتجعات والمدارس الأجنبية والشواطئ وسكان العشوائيات والتعليم المتخلف وسكان المقابر..
عادت أشباح التفاوت الطبقى الرهيب تطارد المصريين أكثر مما كانت عليه حياتهم قبل قيام الثورة.. وأصبح المال سلطانـا متوجا فى حياة المصريين حلالا كان أم حراما.. وأمام البحث عن المال تهاوت قيم كثيرة كانت أهم ما يميز هذا الشعب سلوكـا وثقافة وتحضرا.
لقد أفسد المال منظومة مصر الثقافية حين تحولت الثقافة إلى تجارة.. وأفسد منظومتها الأخلاقية والسلوكية فسيطرت الجريمة على حياة الناس وأصبح الجشع والتحايل أمورا مشروعة.. وكان حلم المصريين مع الثورة فى تجربة ديمقراطية حقيقية ولكن للأسف الشديد مازالت ديمقراطية الصراخ هى العرف السائد بعيدا عن تداول السلطة وتكافؤ الفرص والعدالة فى توزيع موارد الدولة.. وقبل هذا كرامة المواطن بعيدا عن السجون والمعتقلات وقانون الطوارئ.
إن ما بقى من ثورة يوليو لا يتجاوز فى الحقيقة غير مجموعة من الذكريات التى بقيت فى وجدان بقايا جيل عاش عليها.. أما التغيرات الاجتماعية التى وفرت قدرا من العدالة وقدرا من تكافؤ الفرص وقدرا من الحياة الكريمة لفقراء هذا الوطن فقد انتهت تماما أمام جحافل الرأسمالية الحكومية وهذا الزواج الباطل بين سلطة المال وسلطة القرار.