حول الإصلاح الحقيقى لنفقات الدعم!

محمد يوسف
محمد يوسف

آخر تحديث: الثلاثاء 1 أغسطس 2017 - 9:30 م بتوقيت القاهرة

فى بلدٍ يعانى اقتصاده من تفاقم حاد فى عجز موازنته العامة، وتتزايد على إثر ذلك مديونيته الداخلية بمعدلات متسارعة، لا أعتقد أن أحدا يجادل فى حتمية اتخاذ إجراءات إصلاحية جسورة توقف هذا الخلل الجسيم فى إدارة ماليته العامة. غير أن جدلا كبيرا ينبغى أن يحدث إذا كانت الإجراءات العلاجية التى تتخذها الحكومة انتقائية وغير إصلاحية، أو بالأحرى لن تساهم فى علاج هذا الخلل المالى. وتزداد فرص حدوث هذا الجدل إذا كانت الإصلاحات الحكومية من النوعية مرتفعة العبء على الطبقات الدنيا فى البناء الاجتماعى للدولة. ففى تلك الحالة تتشارك الاعتبارات الاجتماعية مع الاعتبارات الاقتصادية لتنتج جدلا لا ينتهى حول صلاحية تلك الإجراءات، فضلا عن الإيمان بجدواها ومنفعتها.
وفى السطور التالية، نستعرض الجدل الدائر حول الإجراءات العلاجية لخلل الموازنة المصرية، والتى تتم بشكل رئيسى عبر تخفيض النفقات المرصودة للدعم، كونه أحد «الثلاث الكبار» فى مكونات الإنفاق العام (نفقات الأجور ونفقات الدعم ونفقات خدمة الدين العام)، مستعرضين الحجج المؤيدة والمعارضة لتلك الإجراءات، ومختتمين ذلك بطرح رؤيتنا لمعايير استرشادية لبرنامج إصلاحى يراعى الإبعاد الاقتصادية ولا يغفل، فى ذات الوقت، الأبعاد الاجتماعية.
وقبل عرض حجج المؤيدين والمعارضين وتفنيدها، فإن الطريق العلاجى الذى تسير عليه الحكومة حاليا، وتوضحه البيانات التحليلية لمشروعات الموازنة المنشورة على الموقع الإلكترونى لوزارة المالية، له أربع سمات رئيسية فيما يخص تفاصيل نفقات الدعم:
ــ أولاها: أن الجهد العلاجى يتسم بأنه «علاج كمى» لقيمة نفقات الدعم فى الموازنة العامة. فهو يركز على تخفيض القيم المطلقة للدعم من جانب، ويحول دون زيادة نسبته إلى جملة الإنفاق العام من جانب آخر.
ــ ثانيتها: التخفيض المتتالى لنفقات دعم المواد البترولية ودعم الكهرباء كقيمة مطلقة وكنسبة من إجمالى نفقات الدعم، والوصول بأسعارها إلى تكلفة إنتاجها وتوزيعها على المستهلكين.
ــ ثالثتها، الزيادة التدريجية فى القيم النقدية لنفقات دعم السلع التموينية المرصودة للطبقات الفقيرة.
ــ رابعتها، الإبقاء على المكونات الأخرى لنفقات الدعم دون تغيير يذكر (مثل دعم التصدير ودعم الإنتاج الصناعى ودعم التأمين الصحى والأدوية... الخ).
ولأن هذا الطريق العلاجى لنفقات الدعم تسير عليه الحكومة بتوجيه من صندوق النقد الدولى، فإن أغلب حجج المؤيدين ترفع شعار «كبح التضخم وخفض عجز الموازنة العامة» الذى ينافح هذا الصندوق عنه دائما. فهم يعتقدون فى سلامة الإجراءات العلاجية السابقة، لكون:
ــ التشوهات التى يحدثها الدعم فى أسواق السلع والخدمات تجعل التخلى عنه أمرا مطلوبا من الناحية الاقتصادية، حتى تعكس الأسعار الندرة النسبية والتكلفة الحقيقية لإنتاج هذه السلع فى السوق.
ــ التضخم الذى سيحدث من جراء تخفيض نفقات الدعم هو من قبيل «الصدمة التضخمية» التى تحدث مرة واحدة فقط once and for all، ثم سرعان ما يزيل النمو الاقتصادى من الآثار السلبية لهذه الصدمة على رفاهية المواطنين فى الأجلين المتوسط والطويل. أما الموجة التضخمية التى يشهدها الأجل القصير، فيمكن التصدى لآثارها السلبية بزيادة الدعم المرصود للسلع التموينية.
ــ الانتقائية فى تخفيض الدعم الموجه للطاقة والكهرباء، والتحيز لصالح دعم المنتجين على حساب دعم المستهلكين، هو إجراء مقبول من الناحية الاقتصادية. ذلك لأن المساس بدعم المنتجين بنسب تقلل من معدلات الربحية والنمو للأنشطة المدعومة، يؤثر سلبيا على الرفاهية الاقتصادية الكلية المأمولة من سياسة الدعم.
ومحصلة النقاط السابقة هى أن حجج المؤيدين ترى أن السياسة الاقتصادية اتخذت ما فى وسعها من إجراءات ضرورية لإصلاح مشكلة الدعم فى الاقتصاد المصرى، وبما يساهم فى كبح جماح التضخم وخفض عجز الموازنة.
*****
إذا انتقلنا الآن لعرض حجج معارضى السياسات الحكومية العلاجية لنفقات الدعم، فالماثل أمامنا حججٌ أربع:
1 ــ إن نفقات الدعم لا تحدث التشوهات السعرية فى أسواق السلع والخدمات، بل إن الاحتكار المتزامن مع ضعف الرقابة الحكومية على سياسات التسعير هو المسئول الأول عن تلك التشوهات. وبالتالى فإن من يبتغى علاج تشوهات الأسعار لن يجد ضالته فى تخفيض نفقات الدعم، وعليه إحكام الرقابة على الأسواق وكسر الاحتكارات القائمة. ويستشهد أنصار هذه الحجة بأن التخفيضات المتتالية التى أجرتها الحكومة المصرية لنفقات الدعم لم يظهر أثرها الإيجابى على تلك التشوهات، واستمرت بشكلها نفسه قبل التخفيض.
2 ــ إن الصدمة التضخمية التى تنتج عن تخفيض نفقات الدعم تصاحبها موجات تضخمية متتابعة، ولا تحدث مرة واحدة كما يدعى المؤيدون. فارتفاع أسعار الوقود والكهرباء يرفع ــ بنفس النسبة، أو ربما بنسبة أكبر ــ أسعار السلع والخدمات فى الأسواق فى الأجل القصير، وذلك نتيجة لضعف جهاز السوق عن ترشيد قرارات التسعير. كما أن توقف الموجات التضخمية عن الحدوث فى الأجلين المتوسط والطويل مرهون بتحقيق معدلات مرتفعة من النمو اقتصادى، وضمان وصولها لعناصر الإنتاج بعدالة، وهو أمر مشكوك فى حدوثه فى ظل السياسات الاقتصادية المصاحبة لتخفيض نفقات الدعم (وخصوصا رفع سعر الفائدة على الإقراض)، وما تسببه من ركود فى الاستثمار الإنتاجى.
3 ــ إن الآثار السلبية للتخفيض الكبير والمتتالى لبعض بنود نفقات دعم الوقود والكهرباء على مستوى رفاهية المواطن، لا تعوضها الزيادات المحدودة والمتقطعة لبنود دعم السلع التموينية. ولأن البنود التى يتم تدعيمها تعانى من اختناقات شديدة فى قنوات وصولها إلى مستحقيها (باستثناء منظومة الخبز)، فإن النتيجة المنطقية لسياسة الدعم الحالية هى الأثر السلبى على رفاهية المواطن.
4 ــ على أن أكثر حجج المعارضين شيوعا هى أن قرار «تعويم الجنيه» هو المسئول الرئيسى عن زيادة نفقات الدعم، كنتيجة لارتفاع نسبة المكون الأجنبى فى السلع المدعومة. وبالتالى، فإن غياب التنسيق بين سياسة الصرف الأجنبى وسياسة الإنفاق الحكومى هو المسئول عن زيادة القيم النقدية للنفقات الدعم فى موازنة الحكومة (لاحظ أن القيم الحقيقية تراجعت بشدة بفعل معدلات التضخم المرتفعة).
وعلى أى حال، فان الحجج الأربع السابقة توضح إلى أى مدى يعتقد معارضو سياسة الدعم الحكومية أن تلك السياسة لن تتمكن من تحقيق أهدافها المعلنة، والمتمثلة فى مكافحة التضخم وتقليل عجز الموازنة، بل يرون أنها تزيد من اشتعال الأسعار ولن تقلل من عجز الموازنة فى الأجلين المتوسط والطويل.
*****
ليس من المتوقع إذن، فى ضوء احتدام الجدل بين مؤيدى ومعارضى السياسة الحالية للدعم، أن نصل لمنطقة اتفاق كامل على سياسة حكومية للتصدى لمشكلة الدعم، ولكن غاية ما نصبو إليه الآن هو طرح معايير موضوعية لسياسة إصلاحية حقيقية للدعم، يمكن الاسترشاد بها لصياغة وتقييم السياسة الإصلاحية للدعم، نجملها فى الخطوط العريضة التالية:
ــ مدى قدرة تلك السياسة على تخفيض العجز الكلى فى الموازنة العامة، حتى لا نكون أمام سياسة تعالج سببا من أسباب العجز وتنشئ سببا آخر، كحال الأدوية الرديئة دائما.
ــ مدى قدرة تلك السياسة على التوفيق بين «العلاج الكمى»، بتخفيض القيم النقدية لنفقات الدعم، و«العلاج الوظيفى» للدعم، بوصول هذا الدعم لمستحقيه الحقيقيين. ولن يتم ذلك إلا بإزالة الاختناقات والتشوهات فى الإدارة الحالية للدعم، واستخدام التكنولوجيا فى إيصال الدعم لمستحقيه.
ــ مدى قدرة تلك السياسة على تحقيق التحيزات الاقتصادية والاجتماعية السليمة، بتحيزها القوى والمتزايد لصالح المصنعين والمصدرين، ولصالح كاسبى الأجور والرواتب، وتحيزها ضد أصحاب الريوع والفوائد.
ــ مدى المواءمة بين تلك السياسة وبين باقى مكونات السياسة الاقتصادية، حتى لا تتسبب إحدى السياسات الاقتصادية فى زوال الآثار الإيجابية المرجوة من سياسة الإصلاح الحقيقى للدعم.
ــ وأخيرا، مدى مراعاة تلك السياسة لأن يكون الأثر الإجمالى لها ايجابيا على رفاهية المواطن وعلى قدراته الاستهلاكية. حتى لا نكون أمام سياسة ترحل المرض ولا تعالجه، إذا اقتصرت على ترحيل العجز من موازنة الدولة لموازنة المواطنين.
وعموما، فلا يجوز لتحليلنا أن ينتهى دون أن نؤكد، مرارا وتكرارا، على أن علاج عجز الموازنة العامة لن يكتب له النجاح إذا اقتصرت السياسة الاقتصادية على إصلاح نفقات الدعم، ولم تولَ الطاقة الضريبية الكامنة فى الثروة والدخل الاهتمام الإصلاحى المطلوب.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved