هل دخلنا مرحلة الديستوبيا الرأسمالية؟

محمد الهوارى
محمد الهوارى

آخر تحديث: السبت 1 أغسطس 2020 - 9:35 م بتوقيت القاهرة

عندما كتب سير توماس مور رائعته الخالدة «يوتوبيا» Utopia عن مفهوم «المدينة الفاضلة» كان بالضرورة يقوم أيضا بتعريف المفهوم المضاد وهو «ديستوبيا» Dystopia أى «المدينة الفاسدة»، وتطورت الفكرة حتى صار فساد محاولات خلق اليوتيوبيا، فى حد ذاتها، تخلق الديستوبيا، تمحورت أعمال فنية وأدبية كثيرة حول مفهوم الديستوبيا وللأسف نرى اليوم الكثير من هذه المفاهيم تتزايد فى العالم وخصوصا فى عالم الاقتصاد الذى يدخل مرحلة جديدة لم يشهد العالم مثلها خلال المائة عام الماضية. فرانك بورمان رائد الفضاء الأمريكى له مقولة شهيرة: «الرأسمالية بدون إفلاس هى مثل المسيحية بدون جهنم»، وعندما تدخلت البنوك المركزية العالمية لقمع أحد أهم مراحل الرأسمالية، وهى مرحلة «التدمير الخلاق» Creative Destruction، وذلك بغرض خلق يوتوبيا اقتصادية لا تعرف الخسارة، فهى فى الحقيقة خلقت ديستوبيا سيتغير معها النظام الاقتصادى والمالى العالمى إلى نموذج يختلف تماما عما عرفناه فى حياتنا حتى اليوم.
للتدليل على دخول الرأسمالية إلى مرحلة الديستوبيا نستعرض ثلاث نقاط مهمة:
١ــ وصل مردود الاستثمار إلى أضعف مستوياته، وصارت هذه الحالة مقبولة وطبيعية، فمثلا أحد أهم الطرق لتقييم الأسهم هو عن طريق معدل الربحية، وأحد أفضل طرق احتساب معدل الربحية هو معدل «ربحية شيلر» (نسبة لعالم الاقتصاد الأمريكى الحائز على جائزة نوبل روبرت شيلر)، النسبة الطبيعية لهذا المعدل على أسهم مؤشر S&P500 هى ١٥، أى أن الاستثمار فى هذا المؤشر سينتج عنه ربحية قدرها ١٠٠٪ خلال ١٥ عاما أو بمعنى آخر سيدر عائدا قدره ٦،٧٪ سنويا. انخفض هذا المؤشر حاليا لنحو نصف معدله الطبيعى، أى أن المستثمر يحتاج لـ ٣٠ عاما لكى يضاعف استثماره، أى نحو نصف عمره! أما الاستثمار فى سندات الخزينة الأمريكية أجل العشر سنوات ــ وهو الاستثمار الآمن ــ فالعائد عليه حاليا نحو نصف فى المائة وهو الأدنى فى تاريخها.
٢ــ انفصام أسواق المال عن الواقع الاقتصادى: قامت معظم الدوريات والمحطات المتخصصة بتناول ومناقشة هذا الموضوع الذى أتى كنتيجة واضحة لسياسة القمع المالى التى تنتهجها البنوك المركزية فى الدول الكبرى منذ سنوات، بهدف كبح معدلات الفائدة وإغراق الأسواق المالية بالسيولة، أهم نتائج هذه السياسة هى اتساع الفروق الطبقية ودعم ثروات مجتمع النصف فى المائة الذى يملك رأس المال، العجيب أنه عندما سُئل محافظ البنك الفيدرالى عن دور البنك فى دعم اتساع الفجوة الطبقية، أنكر الاتهام، وهو محافظ البنك الذى يحدد نظم منح القروض لأصحاب الشركات الكبرى وللبنوك بنسبة فائدة تقترب من الصفر فى المائة، بينما يمنح قروض التعليم بنسبة تصل لثمانية فى المائة! والأخطر من اتساع الفروق الطبقية هو انعدام فرص التقدم الاقتصادى وهى التى تتأخر فيها الولايات المتحدة بصفة مستمرة، ونستطيع متابعتها عن طريق مؤشر «التحرك الاجتماعى العالمى» Global Social Mobility Index والذى تتبوأ فيه الولايات المتحدة حاليا المركز السابع والعشرين، أسمى هذا المؤشر «مؤشر الأمل» لأنه عندما يتأخر ترتيب دولة فيه فهذا يعنى أن فرص القلاقل الاجتماعية والسياسية فيها أعلى كما رأينا خلال الأسابيع الماضية عندما بدأت حركات احتجاجية ضخمة فى أمريكا للمطالبة بحقوق السود وهم الأكثر تأثرا باتساع الفروق الاجتماعية من غيرهم.
٣ــ تسارع ارتفاع أسعار أسهم شركات التكنولوجيا الأمريكية التى انتقلت فى طريقة عملها من اقتصاد الابتكار إلى الاقتصاد الريعى، وهذا أحد مؤشرات دخول الاقتصاد فى أواخر دورته التوسعية، شركة «أبل» مثلا: أهم مصادر ازدياد أرباحها حاليا هو النسبة المرتفعة التى تفرضها على المطورين الذين يستعملون منصتها، بمعنى آخر ريع المنصة، شركة فيسبوك تقوم على علاقاتها السياسية التى تعول عليها لحمايتها من قضايا الاحتكار الاقتصادى التى ستواجهها حتما وربما قريبا جدا، هذه السيطرة الريعية التى تأتى مع سيطرة على مقدرات العالم التكنولوجية تكاد تكون حبكة درامية فى فيلم ديستوبيا مستقبلية من إخراج العبقرى «ستانلى كوبريك».
عندما بدأت تجربة البنوك المركزية فى العالم كانت لأغراض محددة منها مثلا إدارة الدورة الاقتصادية فى أوقات الأزمات مثل الحروب والعمل كرافعة للأداء الاقتصادى تحمى الدول من الصدمات العنيفة مثل التضخم المرتفع والتباطؤ الاقتصادى، والتجربة كانت فى مجملها محمودة منذ بدايتها فى شكلها الحالى فى القرن السابع عشر وتطور طريقة عملها وأهدافها، وإن شابتها دورات الازدهار الذى يتحول لفقاعة ثم الانكماش الذى يتحول لشبه انهيار وهى ما يعرف باسم Boom and Bust Cycles. هذه الدورات شهدت صعود وهبوط شركات واقتصادات وعملات ودول وهى اللحظة التى يبدو أن فيروس كوفيد ١٩ قد أسرع خطانا إليها. هذا الفيروس العجيب لم يخلق اتجاهات جديدة ولكنه أسرع من اتجاهات كانت قائمة وكأننا ضغطنا على زر التقدم السريع Fast Forward على الريموت كنترول فقفزنا عدة سنوات وربما عقد أو اثنين. من أهم هذه الاتجاهات هو تخيل البنوك المركزية فى العالم المتقدم أنهم يستطيعون القضاء على دورة الفقاعات المالية عن طريق سياسة القمع المالى Financial Repression كما ذكرنا وهى السياسة التى انتهجها «آلان جرينسبان» محافظ الفيدرالى الأمريكى فى الثمانينيات والتسعينيات وتبناها من بعده «بن برنانكى» ثم «جانيت يلين» التى أعلنت نهاية دورات الفقاعات المالية للأبد وأخيرا المحافظ الحالى «جاى بأول» الذى قام بعمل قمع مالى يوازى أضعاف كل سابقيه مجتمعين. وهذا ما دعا «هيو هندرى»، وهو أحد مديرى الاستثمار المخضرمين، لأن يحذر فى لقاء مع قناة بلومبرج أخيرا «إما أن تبدأ البنوك المركزية فى الخروج عن هذا السيناريو المرسوم لها حتى لو تسبب بأضرار تستطيع إدارتها فى القريب العاجل أو لنقبل جميعا أن شيئا ما سينهار وقد لا نستطيع السيطرة عليه».

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved