نحو استراتيجية للذكاء الاصطناعي في التعليم العالي

سمية السيد
سمية السيد

آخر تحديث: الثلاثاء 1 أغسطس 2023 - 8:25 م بتوقيت القاهرة

مع التقدم الحاصل فى أبحاث الذكاء الاصطناعى منذ 2015، لم تجد الحكومات بدا من الاهتمام بهذا الملف وتدشين استراتيجياتها الوطنية فى هذا المجال. ولم تكن مصر بمنأى عن هذه المستجدات: ففى يونيو 2021، أطلقت مصر الاستراتيجية الوطنية للذكاء الاصطناعى، ثم أصدر مجلس الوزراء قرار تأسيس المجلس الوطنى للذكاء الاصطناعى فى نوفمبر من العام ذاته. وظهرت مصر لأول مرة فى مؤشر «جاهزية الدول للذكاء الاصطناعى» الصادر عن مؤسسة أوكسفورد إنسايت عام 2020 حيث احتلت المركز رقم 56 (بإجمالى 49.19 نقطة من 100)، ثم ارتفع ترتيبها العالمى إلى 65 فى العامين 2021 و2022 على التوالى ــ إلا أن إجمالى النقاط فى واقع الأمر لم يتغير كثيرا 49.75 لعام 2021 و49.42 لعام 2022.
وبالنظر إلى موضع التعليم العالى فى الاستراتيجية الوطنية للذكاء الاصطناعى، يمكن رصد ثلاث ملاحظات:
الأولى: أكدت الاستراتيجية على أن المؤسسات الأكاديمية ومؤسسات البحث العلمى هى أحد عناصر النظام البيئى للذكاء الاصطناعى وأهم العوامل التمكينية فى بناء القدرات. غير أن الحديث اقتصر على دور «كلية الحاسبات والمعلومات» فى تطوير هذا المجال وتقديمها برامج تدريبية على فصلين دراسيين لكل كلية فى مجال تخصصها، ناهيك عن برامج هيئة تمويل العلوم والتكنولوجيا والابتكار لتعزيز البحث العلمى فى هذا الاتجاه.
الثانية: أشارت الاستراتيجية إلى أن افتتاح أو إعادة تخصيص سبع كليات جديدة بين 2019ــ2020 «سيقدم ما يزيد عن 3000 خريج جديد إلى سوق العمل كل عام».
الثالثة: أدرجت الاستراتيجية عوائد استخدام الذكاء الاصطناعى فى معظم القطاعات، لم يكن من بينها التعليم أو التعليم العالى.
وإجمالا، تشير هذه الملاحظات إلى أن التوجه الذى تبنته الاستراتيجية هو كيفية «توظيف التعليم العالى من أجل تحقيق التقدم فى مجال الذكاء الاصطناعى»، غير أن هذا المنظور يجب أن يقترن بمناقشة جدية لكيفية «توظيف الذكاء الاصطناعى لخدمة التعليم العالى». ويؤسس هذا المقال لمنطق الحاجة إلى استراتيجية للذكاء الاصطناعى فى التعليم العالى اعتمادا على التحديات التى يفرضها الذكاء الاصطناعى على واقع التعليم العالى فى مصر، والفرص التى يقدمها لتطوير وتغيير هذا القطاع.
• • •
وأول هذه التحديات هى العلاقة بين فلسفة التعليم العالى وسوق العمل. فبانتهاء سنوات الدراسة، «تشهد» الجامعة أن الخريج يمتلك المعرفة المتخصصة وعددا من المهارات التفاعلية غير التقنية التى تجعله أهلا للالتحاق بسوق العمل. غير أن ارتفاع معدلات البطالة فى مصر مقابل استمرار شكوى أصحاب العمل من ندرة المهارات المطلوبة لشغل الوظائف يشير إلى أن الفجوة بين العرض والطلب فى سوق العمل المصرى هى أزمة هيكلية، وكذلك الفجوة بين مخرجات التعليم العالى وسوق العمل.
أما وقد ظهرت تطبيقات الذكاء الاصطناعى، فإن هذه الفجوة ستتعمق. فقد أكدت تقارير دولية على أن 40% من الوظائف أصبحت مهددة بالفعل، والأهم أن الأكثر تهديدا هم الفئات الأكثر تعليما؛ وأن الوظائف الآمنة ــ إن صح التعبير ــ هى تلك التى تعتمد على التفاعل البشرى والتفكير الإبداعى. الأمر الذى يعنى أن المهارات المتعلقة بهذين المحورين يجب أن يكونا محور فلسفة التعليم العالى؛ بحيث يصبح هدف التعليم العالى هو إنتاج «مواطن» قادر على الربط بين تحقيق ذاته وبين حل مشكلات المجتمع. وعليه، يجب إعادة النظر فى فلسفة التعليم العالى بحيث تشجع ثقافة إقامة المشروعات الخاصة والعمل الجماعى، والابتكار الحر.
ربما ينطبق ذلك بشكل أكبر على مجالات العلوم الاجتماعية والإنسانيات، ذلك لأن أقصى ما يمكن أن تحدثه تطبيقات الذكاء الاصطناعى فى مجال العلوم الطبيعية هو «تغيير المهام» المرتبطة ببعض الوظائف لا إحلالها بشكل كامل. على سبيل المثال: تم استخدام تطبيقات الذكاء الاصطناعى فى تشخيص الأمراض والتشخيص بالأشعة أو تقديم نماذج محاكاة تقريبية للنتائج المتوقعة من عمليات التجميل، ولكن لا يمكن لهذه التطبيقات أن تحل محل الجراح فى غرفة العمليات.
ثانيا: الانشغال بإنتاج الذكاء الاصطناعى وتطوير تطبيقاته عن الهدف النهائى للجامعة: بناء المعرفة وحل مشكلات المجتمع. فقياسا على هرم بناء المعرفة، لا تتعدى هذه التطبيقات كونها أداة أو وسيلة على مستوى تجميع وتصنيف ودمج المعلومات واكتشاف الأنماط؛ وهو ما قد يساعد فى تقديم فرضيات «عامة»، لكنها تعجز ــ حتى هذه اللحظة ــ عن اختبار الفرضيات كما فى التحليل الكمى أو الاهتمام بالخصوصيات الثقافية أو المحلية كما فى التحليل الكيفى ــ وهما جوهر البحث العلمى وبناء النظريات؛ وكلاهما يهدف فى النهاية إلى إيجاد حلول عملية لمشكلات المجتمع. لذا، يجب ترشيد الانبهار بالذكاء الاصطناعى من خلال وضعه فى إطار دور الجامعة المعرفى والمجتمعى وحاجات الدولة التنموية.
ثالثا: عملية تقييم الطلاب ــ خاصة فى مجال العلوم الاجتماعية والإنسانيات. فقد ثبتت قدرة نموذج ChatBot اللغوى مثلا على إنتاج مقالات بأى عدد من الكلمات، يمكنها تجاوز برامج كشف الغش الأكاديمى. ومن هنا تظهر الحاجة إلى البحث عن بدائل للتقييم لضمان جودة المخرج التعليمى. ويرتبط ذلك أيضا بضرورة تطوير قواعد أخلاقيات البحث العلمى والنزاهة الأكاديمية تفعيلا لما ورد فى المبدأ التوجيهى الخامس من «الميثاق المصرى للذكاء الاصطناعى المسئول» حول آليات حل المشكلات الناتجة عن الاستخدام غير المصرح به لتطبيقات الذكاء الاصطناعى.
• • •
وعلى الجانب الآخر، يقدم الذكاء الاصطناعى فرصا لتطوير التعليم العالى من خلال:
أولا: تغيير دور الأستاذ الجامعى بحيث ينتقل عبء الاضطلاع بالمهام الإدارية المرتبطة بعملية التدريس من الأستاذ الجامعى إلى أحد تطبيقات الذكاء الاصطناعى، التى يمكن استخدامها أيضا فى إعداد شروح الدروس، ودمجها فى الأنشطة التفاعلية فى قاعات الدرس. أما دور الأستاذ الجامعى فسوف يصبح أكثر تركيزا على التوجيه والتعامل مع الاختلافات الفردية للطلاب؛ بالإضافة إلى إعادة تخصيص وقت أكبر للعمل البحثى وهو ما يعنى ارتفاع مستويات الإنتاج البحثى واحتمالات النشر الدولى ــ ومن ثم تحسين وضع الجامعات المصرية فى المؤشرات الدولية ذات الصلة.
ثانيا: الانفتاح على احتمال تغيير نموذج التعليم العالى، فقد توصلت بعض الدراسات إلى أن دمج الذكاء الاصطناعى فى مجال التعليم العالى يساعد فى تعديل المناهج الدراسية بما يتناسب مع قدرات الطلاب ــ خاصة من ذوى الهمم ــ وما يتناسب مع سرعتهم فى الاستيعاب أو ظروفهم المعيشية؛ وإمكانية منح شهادات التعليم عن بعد ــ وهو ما يعنى إمكانية تبنى نموذج التعليم الذاتى واعتماده. كما يرتبط ظهور هذه التطبيقات بتسارع تطوير بعض المجالات والحاجة المستمرة لتحديث معرفة خريج الجامعة وهو ما يعنى استمرار العلاقة بين الجامعة والخريج مدى الحياة وظهور نموذج التعلم مدى الحياة Lifeــlong Learning.
ثالثا: تقليل النفقات وزيادة مصادر تمويل الجامعة. ذلك لأن دمج تطبيقات الذكاء الاصطناعى للإجابة على التساؤلات أو استخراج الأوراق الرسمية أو إنهاء بعض المعاملات والعمليات الإدارية من شأنه تقليل الوقت والمجهود وتحقيق الكفاءة فى تقديم الخدمات داخل الجامعة؛ وهو ما ينعكس على تقليل نفقات إدارة العمل الجامعى. ومن ناحية أخرى، فإن الانفتاح على نماذج التعليم الذاتى والتعليم المستمر مدى الحياة يعنى أن تقدم الجامعة مناهج دراسية افتراضية مقابل اشتراك بمقابل مادى يجدد سنويا ــ وهو ما يقدم مصدرا إضافيا لتمويل الجامعة.
• • •
بين تحديات تتطلب مرونة واشتباكا مدروسا، وفرص هى بوابة الاحتمالات ولغتها الممكن، تكمن الحاجة إلى استراتيجية قطاعية للذكاء الاصطناعى فى التعليم العالى. بين ذاك وتلك دعوة للتطوير والتغيير، ولا يوجد ما يمنع من استهلاك ما آل إليه العلم فى هذا المجال والتمتع بعوائده بالتوازى مع العمل على اللحاق بالركب العالمى للمشاركة فى إنتاجه، فلم لا؟!

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved