نشرت مؤسسة الفكر العربى مقالا للكاتبة رفيف رضا صيداوى، تناولت فيه الفرضية التى قامت عليها النظرية النسوية البيئية وهى العلاقة الوثيقة بين المجتمع البطريركى (الأبوى) واضطهاد المرأة وتدمير البيئة، ومن ثم جاءت الدعوة إلى إحداث تغيير جوهرى فى العلاقة بين الجنسين.. نعرض من المقال ما يلى.
عادت النظريّات النسويّة البيئيّة فى نوفمبر من العام 2021 لتحتلّ النقاش فى فرنسا. ففى احتفاليّة بيئيّة نظَّمها حزب أوروبا ــ الدّفاع عن البيئة ــ الخُضر، قُبيل الانتخابات الرئاسيّة الفرنسيّة التى جرت فى إبريل 2022، أثارت المرشَّحة ساندرين روسّو غضبَ كثير من الأشخاص المعلقين بسبب بعض أحكامها المتطرِّفة.
«العالَم يعانى ويحتضر بسبب ارتفاع منسوب العقلانيّة والقرارات التى يتّخذها مُهندسون. أنا أفضّل نساءً يطلقون تعويذات (فى إشارةٍ منها أو إحالةٍ إلى السحرة، الشخصيّات الأيقونيّة أو البارزة فى النسويّة البيئيّة) على رجالٍ يبنون مفاعلاتٍ نوويّة»؛ هذا ما صرّحت به ساندرين روسّو لصحيفة «شارلى إبدو» فى 25 أغسطس 2021. تصريحات كانت مَثار الكثير من النقد من قِبَلِ خصومها، على اعتبار أنّها، برأيهم، راديكاليّة للغاية، وطائشة، وحتّى ظلاميّة.
هذا التيّار الفلسفى والسياسى، الذى ظَهَرَ فى السبعينيّات من القرن الماضى، انطلقَ من فرضيّة وجود علاقة أو رابط بين السيطرة الذكوريّة والنموذج الاقتصادى المسئول عن الأزمة الأيكولوجيّة. وبحسب دُعاة النسويّة البيئيّة، فإنّ كلّا من اضْطهاد النساء وتدمير البيئة هُما نِتاج المُجتمع البطريركى.
النسويّة البيئيّة قامت فى الولايات المتّحدة الأمريكيّة فى ثمانينيّات القرن الماضى بوصفها حركة سياسيّة. وبقدر ما هى حركة واسعة وغير مُتجانسة، إلّا أنّها استطاعت أن توحِّد مُناهضين للأسلحة النوويّة، من دُعاة حماية البيئة، ودُعاة سلام، وبالطبع نساء من معتقدات مُختلفة، فى جميع أنحاء العالَم.
• • •
فى فرنسا، كان استقبال نظريّة النسويّة البيئيّة سيّئا فى البداية. وذلك لسببٍ وجيه، من بين أسباب أخرى، وهو تأثير سيمون دو بوفوار الذى ساعَدَ فى زرْع فكرة أنّ كلّ فردٍ له ملء الحرّيّة فى اختيار مصيره. فى الفلسفة الوجوديّة أيضا «الطبيعة» هى بناء أيديولوجى، ثمّ إنّ تعزيزها فلسفيّا ما هو إلّا مراوغة خالصة. فقد كتبت دو بوفوار: «نحن لا نولد نساءً، بل نصبح كذلك». وانطلاقا من وجهة النّظر هذه شكَّلت النسويّة البيئيّة قمّة البِدَع.
على الرّغم من ذلك، فإنّه فى بلد رينيه ديكارت وسيمون دو بوفوار رأت أولى الأطروحات النسويّة البيئيّة النّور عند نهاية سبعينيّات القرن الماضى. فى الخامس من مايو 1978، صرَّحت الكاتبة والناشطة النسويّة فرانسواز دوبون من خلال التلفاز قائلة: «تثور النساء ضدّ الضَّيم الذى لحق بهنّ بشكل أقلّ من ثورتهنّ ضدّ الضَّيم الذى يلحق بالطبيعة، لكون هذا الأخير هو جريمة قد تفضى فى النهاية إلى اختفاء النَّوع الإنسانى بأسره، رجالا ونساءً».
فرانسواز دوبون هى أوّل مَن استخدم الكلمة الجديدة «نسويّة بيئيّة» فى كتابها «النسويّة أو الموت» الصادر فى العام 1974. فى كِتابها هذا تُبيِّن دوبون كيف يعود مَنطِقا تدمير البيئة واضْطهاد النساء كلاهما فى أصولهما إلى قواعد النظام البطريركى ومعاييره. وفى رأيها إنّ الحيازة السحيقة لخصوبة الأرض، وكذلك لخصوبة المرأة، والتى تقوم على استغلال الموارد وتدميرها من طرف سلطة الذكور، ليست نتيجة لمثل هذا النظام، كونها تشكِّل مدماكه.
هكذا تتميّز دوبون عن النسويّة المقيَّدة التى عرفتها الموجات الأولى للنسويّة (التى لا تدعو إلى تغيير مؤسّسى شامل)، وعن كلّ أشكال المشروعات الثوريّة التى، من وجهة نظرها، اكتفت بتوزيع السلطة بشكلٍ مختلف، لكنْ من دون أن يُصار إلى تغييرٍ جوهريّ للعلاقة بين الجنسَيْن. يجب إذن تغيير العصر: «إنّها مسألة انتزاع الكوكب من ذَكَرِ اليوم، لإعادته إلى إنسانيّة الغد. إنّه الخَيار الوحيد، لأنّه فى حال استمرّ المُجتمع الذكورى، لن يكون هناك من إنسانيّةٍ غدا». هذا ما أعلنه بيان «ولادة النسويّة البيئيّة« فى العام 1974.
راديكاليّة فرانسواز دوبون لم تؤسِّس لمدرسة فى فرنسا. فى الولايات المتّحدة، اكتشفت الفيلسوفة الأمريكيّة مارى دالى فكرَ فرانسواز دوبون فى ثمانينيّات القرن الماضى، وعملت على التعريف به.
فى الوقت عَينه، انضمّت ناشطات نسويّات جديدات إلى الحركة المضادّة للأسلحة النوويّة بمناسبة الفضائح البيئيّة. تلك الفضائح التى تُطاوِل قبل أى شىء الفئات الأكثر حرمانا وتهميشا. والنساء هنّ فى هذا السياق فى الصفّ الأمامى. من رَحَمِ هذه الحركة، انتشرت الناشطات الأمريكيّات الأوائل خارج الأسوار الجامعيّة. واحدة من أكثر أفعالهنّ إثارة تمثّلت فى حركة «Women's Pentagon Action»، وذلك فى 17 نوفمبر 1980، التى قامت فى أرلنجتون فى فرجينيا. وقد سجّلت الفيلسوفة إيميلى هايش الآتى: «آلاف النساء اجتمعْنَ أمام البنتاجون [مقرّ وزارة دفاع الولايات المتّحدة]. كنّ يغنّين، ويصرخْنَ بغضب، ويبكين(...)؛ بعضهنّ كان يرتدى زى الساحرات، ويرمى بتعويذاته السحريّة المؤذيَة على البنتاجون».
• • •
فى مطلع التسعينيّات من القرن الماضى، تابعت باحثات أنكلوساكسونيّات فى العلوم الإنسانيّة والفلسفة مثل ــ سوزان جريفين، وكارولين ميرشنت، وكارين وارين ــ التنظيرَ حول النسويّة البيئيّة أو الأيكولوجيّة. وفى مقالة بعنوان «القوّة ووعد النسويّة الأيكولوجيّة» (1990)، بيَّنت كارين وارين لماذا لا تنفصل المسألةُ الأيكولوجيّة عن مسألة النساء. العالَم الحديث يتميّز بالازدواجيّة القائمة بين الرجل، كذاتٍ واعية، والطبيعة ككائن غير حسّاس وقابل للاستغلال. بالنسبة إلى النسويّات البيئيّات، فإنّ هذه الازدواجيّة تشكّل ما هو غير مدروس أو غير المفكَّر به على وجه التحديد، بقدر ما تشكِّل المصدرَ لتبرير الاستغلال اللّامحدود للمَوارد الطبيعيّة. هذه المُغالاة أو هذا التطرُّف، فضلا عن العنف، يستندان إلى تشابهٍ ضمنيّ بين سلبيّة الطبيعة (أو خنوعها وعدم فعاليّتها) والوضعيّة الدونيّة للنساء.
فى كِتاب «موت الطبيعة: المرأة، والبيئة، والثورة العلميّة» الصادر فى العام 1980، تؤكّد كارولين ميرشنت، أستاذة التاريخ البيئى والفلسفة والأخلاق فى جامعة باركلى، أنّه منذ العصور الوسطى وحتّى عصر النهضة، تمثَّلت الأرض كأمٍّ راعية تحمل الحياة فى داخلها. وهو تمثُّل تربطه ميرشنت بالقيود الأخلاقيّة الصارمة، كمثل عدم طعن الأمّ، وعدم اختراق أحشائها، وعدم تشويه جسدها. عمليّا، فإنّ ذلك يعنى عدم الإفراط فى استغلال الأرض وترْك الوقود الأحفورى فى مكانه. فى القرن السابع عشر، ومع فرنسيس باكون وديكارت، أضحت الطبيعة مادّة سلبيّة (أو غير فاعلة) مسخَّرة لأن يتمّ التحكّم بها والتفتيش فيها لخدمة تقدُّم العِلم، والتكنولوجيا، والصناعة. قبل ذلك بوقتٍ قليل، فى نهاية القرن السادس عشر، كانت مَحاكم التفتيش تُجبر الساحرات على الكشف عن أسرارهنّ باتّباع منطقٍ يَجمع بين الاستجواب القضائى والسيطرة الجنسيّة.
بالنسبة إلى بعض النسويّات، دخلت النساء بشكل طبيعى فى صدىً مع الأرض، أى أصبحْنَ صدىً لها؛ وبات هناك، فى بعض النواحى، تقاربٌ طبيعىٌّ بين العنصر الأنثوى والطبيعة ــ الخصوبة، الهشاشة، النعومة.
وإذا كانت كلٌّ من كارولين ميرشنت وإليزابيث ماير قد حذَّرتا من أى شكلٍ من أشكال «النّزوع الطبيعى»، فإنّ ذلك لم يمنعهما من الدعوة إلى علاقاتٍ جديدة بين النساء والطبيعة، تتّصف بكونها غير هَرميّة، وغير قائمة على السيطرة. بالنسبة إلى إليزابيث ماير ينبغى تعزيز أخلاقيّة معيّنة «تحتلّ مركز الصدارة بين قيَم العناية والحبّ والصداقة والتبادُل»، كقيَمٍ تفترض أنّ علاقاتنا بالآخرين هى ذات دَورٍ محوريّ فى فهْم علاقاتنا بالطبيعة والمُجتمع.
مثل هذا البرنامج تمّ العمل به منذ سنوات من خلال المُمارسات التقليديّة للنساء الأيكولوجيّات من العالَم بأسره: النسويّة البيئيّة كانت، ولا تزال، مُمارَسة مُجتمعيّة وتكافليّة قبل أن تكون فلسفة جامعيّة أو أكاديميّة مُناهِضة للديكارتيّة.
النص الأصلى: https://bit.ly/3ACFn4q