حكايات وفاء وكاميليا .. وأم جورج
جلال أمين
آخر تحديث:
الجمعة 1 أكتوبر 2010 - 11:04 ص
بتوقيت القاهرة
الذى يقرأ ويسمع ما يقوله الناس فى مصر عن قصة وفاء قسطنطين، ثم عن قصة كاميليا شحاتة، لابد أن يتعجب أشد العجب من التطور الذى طرأ على علاقة المسلمين بالأقباط فى مصر خلال العقود الأخيرة، بل وأيضا من التطور الذى طرأ على نظرة المسلمين المصريين إلى أنفسهم ونظرة الأقباط إلى أنفسهم.
أصارح القارئ بأنى لم أحرص على تتبع الأخبار اليومية عن تفاصيل ما حدث فى كلتا القصتين، لأنى لم أعتبرهما فى البداية شيئا يستوجب اهتماما كبيرا، ولكن تتابع الأخبار عن القصتين، واحتلالهما مساحات تزداد حجما يوما بعد يوم، وتضخم المانشيتات التى تحمل آخر أخبارهما، كان يجبر أى شخص على معرفة المزيد من الأخبار عنهما. ومع هذا فأنا مازلت لا استطيع أن أحكى لأحد بالدقة الكافية ماذا حدث بالضبط. الذى أعرفه أن وفاء وكاميليا سيدتان مسيحيتان، أو على الأقل كانتا مسيحيتين، ثم قيل إن وفاء قسطنطين أسلمت ثم عادت إلى مسيحيتها، وأنها الآن فى مكان ما فى أحد الأديرة تحت أعين الكنيسة، وأن كاميليا شحاتة هربت من منزل الزوجية ثم أسلمت، ثم قيل إن رجال الأمن قبضوا عليها وسلموها للكنيسة، ثم أنكرت الكنيسة أنها أسلمت على الإطلاق، بينما يصر مسلمون كثيرون على أنها أسلمت ثم أجبرت على العودة إلى المسيحية. وقام متظاهرون مسلمون يحتجون على تدخل رجال الأمن فى حرية امرأة قبطية تريد أن تعلن إسلامها، واحتج الأقباط على احتجاج المسلمين... الخ.
لقد أصبحت السيدتان وفاء وكاميليا إذن شخصيتين شهيرتين، فقد رأى الجميع صورهما يتكرر نشرها فى الصحف، مع أن الأمر لا يتجاوز رغبة فردية محضة، لا نعرف دوافعها الحقيقية، ولكن من المؤكد أنها لا تعلى من مقام إحدى الديانتين أو تقلل من مقام الديانة الأخرى. فقيام فرد، أى فرد، بتغيير دينه، فضلا عن ندرة حدوثه، يتعلق فى العادة بمشكلة شخصية بحتة، ومن الصعب جدا تصور حالة اتخذ فيها أى شخص، رجلا كان أو امرأة، هذا القرار بتغيير الديانة، بناء على استغراق فى البحث والتفكير فيما يميز إحدى الديانتين عن الأخرى. ليس هذا من طبيعة الأمور، ولا من طبائع معظم البشر، ناهيك عن صعوبة تصوره فى مثل أحوال مصر الحالية، وبين أفراد طبقة اجتماعية كالتى تنتمى إليها السيدتان وفاء وكاميليا. ومن شبه المؤكد إذن أن الرغبة فى تغيير الدين كانت فى الحالتين قرارا مبنيا على اعتبارات عملية بحتة (تتعلق على الأرجح بحرية الطلاق والزواج)، وليس على اعتبارات فكرية. وهذا وحده كفيل بأن يجعل الأمر غير جدير بالاهتمام. فلماذا إذن كل هذا التوتر والتشنج؟ ولماذا يتحمس المسلمون كل هذا الحماس، ولماذا تتدخل الكنيسة إلى هذا الحد، ولماذا يتدخل رجال الأمن أصلا؟ لقد تحولت حادثة فردية لا أهمية لها ولا تستحق الكثير من التفكير، إلى ظاهرة اجتماعية لابد لها من تفسير. ولقد وصلت أنا إلى تفسير معين سأطرحه هنا على القراء.
كما أن من الممكن أن يحدث لشخص ما، ما يضعف ثقته بنفسه، فيصبح شديد الحساسية لما يقوله الناس عنه، ويبتئس أكثر من اللازم لأى نقد يمكن أن يوجه إليه، ويفرح أكثر من اللازم بما قد يوجه إليه من ثناء، حتى ولو كان ثناء غير حقيقى، أو كان هذا الثناء مدفوعا برغبة أنانية أو لمجرد المجاملة، كذلك يمكن، فيما يبدو لى، أن تفقد طبقة أو طائفة بأكملها ثقتها بنفسها، أو تضعف بشدة هذه الثقة، فتتصور الإهانة حيث لا توحد إهانة، وتفرح بمن يشيد بصفة من صفاتها، حيث لا وجه فى الحقيقة للفرح. بل ويشتبك أفراد من هذه الطبقة (أو طائفة من الشعب) بآخرين من نفس طبقتهم (أو بطائفة أخرى من نفس الشعب)، ويتبادلون السباب والشتائم، بناء على ادعاءات موهومة وتصورات حقيقية أو زائفة، عما يظن هذا بذاك، أو ما صدر من إهانات من هذه الطائفة إلى تلك.
إننا نعرف عن تطور علاقة المسلمين بالأقباط خلال المائة عام الماضية، ما يكفى للجزم بأن شيئا مما حدث حول قصة وفاء أو كاميليا، لم يكن من الممكن أن يحدث (أو على الأقل بهذه الصورة الحادة) فى بدايات القرن الماضى، عندما كان يقود الخطاب الإسلامى رجل بمكانة الشيخ محمد عبده، ولا فى الثلاثينيات من القرن العشرين، عندما كان يقوده الشيخ حسن البنا، ولا فى الخمسينيات، أيام سيد قطب ولا حتى فى السبعينيات والثمانينيات أيام الشيخ متولى الشعراوى. لم يكن يتصور فى رأيى، فى أى مرحلة من تلك المراحل، أن يثير قيام سيدة مسيحية بإشهار إسلامها كل هذا الاهتمام والتوتر اللذين حدثا خلال الشهور القليلة الماضية. والسبب أن أحوال المسلمين والأقباط ليست كأحوالهم منذ قرن، ولا منذ نصف قرن، ولا حتى منذ ربع قرن. حدثت لكل منهما أمور سيئة، وازدادت سوءا مع مرور الزمن، أضعفت بشدة من ثقة كل من الجماعتين بنفسها، وانعكس هذا الضعف الشديد فى الثقة بالنفس، فى موقف كل منهما من الأخرى.
قد يبدو الكلام عن «الثقة بالنفس»، فى وصف ما حدث لطبقة اجتماعية بأكملها، أو لطائفة كاملة من الشعب، غريبا بعض الشىء، بينما نقبله بسهولة عندما نصف حالة شخص واحد. ولكنى أعتقد أن هذا الوصف صحيح وملائم تماما للتعبير عما حدث للطبقة الوسطى المصرية، أو لشرائح واسعة منها. إن تدهور الأحوال الاقتصادية يمكن أن يضعف ثقة طبقة كاملة بنفسها، كما يمكن أن يضعف ثقة الفرد بنفسه. ففى ظل هذا التدهور تنتشر البطالة، وينتشر اشتغال غير المتبطلين بأعمال أقل من قدراتهم، وأقل مكانة مما كانوا يطمعون فيه ويؤهلهم له تعليمهم، ويشتد القلق مما يمكن أن يأتى به المستقبل، ويعجز كثيرون عن توفير الحاجات الأساسية للأولاد والبنات، ويضطر الشباب إلى تأجيل الزواج... الخ. تضعف الثقة بالنفس أيضا، إذا تدهور مركزك الاجتماعى بالنسبة لغيرك ممن كنت تقارن نفسك به، وتطمع فى أن تحقق مثل ما حقق. وهذا أيضا يمكن أن يحدث لطبقة اجتماعية بأكملها، عندما تزداد بشدة الفجوة بين الدخول والثروات، ويبدو وكأن من المستحيل اللحاق بالطبقة الأعلى.
يشتد الشعور بالاحباط (ومن ثم تضعف الثقة بالنفس) عندما يحدث هذا اليأس بعد فترة من صعود الآمال. فالمصرى الفقير فى الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضى كانت تفصل بينه وبين الغنى فجوة واسعة، ولكنه كان قد اعتاد لعشرات من السنين (بل وربما لعدة قرون) على فكرة أن عبور هذه الفجوة فى حكم المستحيل، ومن ثم اعتاد أن يعتمد فى كسب الثقة بنفسه على أشياء أخرى غير زيادة الدخل والثروة. لم يعد الأمر كذلك منذ الثمانينيات، أى خلال الثلاثين عاما الأخيرة، إذ حدثت زيادة الفجوة بين الطبقتين الوسطى والعليا، وبين الشرائح الدنيا من الطبقة المتوسطة والشرائح الأعلى منها، بعد عشرين سنة من النجاح فى تضييق هذه الفجوة. كانت الصدمة شديدة، وخيبة الآمال كبيرة، ومن ثم حدث التدهور الشديد فى الثقة بالنفس.
عندما يحدث هذا لطبقة بأكملها، أو لشريحة اجتماعية كبيرة، يسهل جدا أن يحدث ما حدث للعلاقة بين المسلمين والأقباط، كما يصبح من الممكن ان يتغير شكل الخطاب الدينى ومضمونه، وتتغير طريقة تلقى الأحداث وطريقة التعبير عنها، وفى ضوء هذا التغيير يجب أن ننظر إلى ما حدث فى غمار التطورات المؤسفة لقصة وفاء قسطنطين وقصة كاميليا شحاتة.
إن من الممكن جدا أن نفهم أن يُسَر مسلم إذا علم أن مسيحيا عكف على قراءة القرآن الكريم وعلى دراسة الدين الإسلامى، فوجد فى نفسه رغبة فى التحول من المسيحية إلى الإسلام، كما ان من الممكن جدا أن نفهم أن يشعر قبطى بالسرور إذا علم بالخبر العكسى، أى أن مسلما أخذ يقرأ تعاليم المسيح فوجد فى نفسه الرغبة فى التحول من الإسلام إلى المسيحية. ولكن لماذا يغتبط المسلم أو المسيحى إذا سمع أن شخصا من ديانة غير ديانته قرر التحول إلى ديانته هو بناء على ظروف شخصية بحتة، ولأسباب عملية لا فكرية أو عقائدية؟ السرور والغضب هنا لابد أن يكونا تعبيرا عن انفعالات هى بدورها منبتة الصلة بالفكر أو العقيدة، وإنما هى انفعالات ناشئة، على الأرجح عن مشاعر بالاحباط نتجت بدورها عن ظروف اجتماعية واقتصادية.
قد يقال ان الذى أثار المسلمين هو موقف رجال الأمن، الذين تصرفوا وكأنهم انحازوا للكنيسة القبطية دونهم، وأساءوا إلى امرأة كان يجب أن تكون لها الحرية الكاملة فى اعتناق الدين الذى تريده كما أثارهم موقف الكنيسة التى قيل إنها أجبرت إحدى السيدتين أو كلتيهما على العودة بالقوة إلى المسيحية. كما قد يقال إن الذى أثار الأقباط ما تردد من أن هناك من المسلمين من يعمل على تحول بعض الأقباط إلى الإسلام، إلى حد اختطاف بعض القبطيات لهذا الهدف... الخ. ولكن كل هذه الشائعات والاقاويل لا تنشأ إلا فى مناخ اجتماعى فاسد، ولا تنتشر ويجرى ترديدها من فم إلى آخر إلا فى مناخ اجتماعى أكثر فسادا. ورجال الأمن ورجال الكنيسة لا يتصرفون على هذا النحو إلا بسبب ما يرونه من هياج وعواطف متأججة لدى كلا الطرفين، فيحاولون مسايرة طائفتهم من ناحية رغبة فى كسب تأييدهم، أو تهدئة الطائفة الأخرى رغبة فى تجنب المزيد من الفتنة. وهذه الرغبة فى كسب التأييد وهذا الخوف من مزيد من الفتنة لا يشتدان إلا فى مناخ اجتماعى من النوع الذى تعيشه مصر الآن.
فى غمار هذا كله لابد أن تصدر كلمة طائشة أو زلة لسان من هذا الجانب أو ذاك. إذ عندما تحتد المشاعر وتعلو الهتافات ويزيد الصخب يشتد الاغراء لمسايرة الجمهور، خاصة إذا اقترن الأمر بجهود وسائل الإعلام التى لا هم لها إلا مسايرة الجمهور. وهكذا نسمع كلاما من طرف ضد الآخر لم نسمع مثله منذ عشرات السنين، ويجب أن نتوقع المزيد بل والأسوأ منه فى السنين القادمة، ما لم نشرع فورا فى ايقاذ ما يمكن انقاذه بإصلاح أحوالنا الاقتصادية والمعيشية.
فى غمار هذه الأحداث المدهشة لابد أن يتذكر المرء قصة بديعة، حدثت بالفعل فى الثلاثينيات أو الأربعينيات من القرن الماضى رواها عن أمه، عبدالرحمن عزام، ذلك الرجل الوطنى الفذ وصاحب الفكر النير، والذى ألف كتابا ممتازا فى شرح تعاليم الدين الإسلامى، وكان أول أمين عام لجامعة الدول العربية. والقصة انه عاد يوما إلى منزله فوجد أمه ترتدى ملابس العزاء، فسألها عن السبب، فقالت انها كانت تعزى جارتها أم جورج (أو لعل الاسم الحقيقى غير ذلك). فلما سألها عما إذا كان قد حدث شىء لجورج، قالت انه غير ديانته إلى الإسلام. سألها مندهشا وهو غير مصدق «انت تذهبين لتعزية أم جورج لأن ابنها اعتنق الإسلام؟« فقالت «انت تعرف قلب الأم يا بنى!».
السؤال هو: لماذا كان من الممكن أن يحدث هذا منذ سبعين عاما ولم يعد ممكنا الآن؟ لماذا كان المصريون منذ سبعين عاما أكثر قدرة على تصور شعور الأم فى مثل هذه الحالة منهم الآن؟ أو لماذا كانوا أكثر استعدادا فى الماضى لإعطاء المشاعر الإنسانية الطبيعية الأولوية على السلوك الظاهرى، بالمقارنة بحالهم اليوم؟ هذا هو ما حاولت الإجابة عنه فى هذا المقال.