تصحيح المسار بالعودة لأفكار قديمة لكنها لم تفقد صلاحيتها
إبراهيم العيسوى
آخر تحديث:
السبت 1 أكتوبر 2011 - 8:35 ص
بتوقيت القاهرة
بتحليل المشهد السياسى الحالى (فى مقال سابق) استطعنا تحديد العوامل المؤدية إلى الاضطراب فى إدارة المرحلة الانتقالية، والتى تقودنا إلى مستقبل لا يدعو للاطمئنان إلى المضى بالثورة نحو تحقيق أهدافها. وتتلخص هذه العوامل فى استطالة أمد غياب الأمن، والجرى نحو بناء النظام الجديد قبل رفع أنقاض النظام القديم، وغياب الترتيب المنطقى لخطوات الخروج من المرحلة الانتقالية، وانفراد المجلس العسكرى بالقرار وتمسكه بسقف منخفض للتغيير، مع عدم تأهله للعمل السياسى وممارسة الحكم، وغياب إطار منظم وكفء للتشاور بين المجلس العسكرى والقوى السياسية، وغياب الانسجام بين المجلس العسكرى وحكومته، وعدم تمشى الكثير من قرارات الحكومة وسياساتها مع روح الثورة.
وبمعرفة هذه العوامل نكون قد قطعنا نصف الطريق إلى الإجابة عن سؤال: ما هو البديل للمسار المرتبك الحالى ولما يدعو إليه من هرولة إلى انتخابات قد تأتى ببرلمان لا يختلف جوهريا عن برلمان النظام السابق، ومن ثم لا يتوقع منه إنتاج دستور مناسب لدولة الثورة، ولا سن تشريعات تساعد على تحقيق الأهداف الثورية؟ وجوهر الحل فى تقديرى هو العودة للأفكار الصحيحة، أى الأفكار التى تتمشى مع البديهيات والخبرة التاريخية والترتيب المنطقى السليم لخطواتنا خلال مرحلة الانتقال. وقد كان بعض هذه الأفكار مطروحا منذ الأيام الأولى للثورة، ولكن تخلت عنها معظم القوى السياسية وراحت تعد نفسها لخوض معركة الانتخابات التشريعية الوشيكة، إما عن اقتناع كما هو الشأن مع جماعات الإسلام السياسى وبعض القوى السياسية، التى تتعجل التخلص من «حكم العسكر» بأى وسيلة ومهما كانت الظروف، وإما اضطرارا كما هو الشأن مع معظم الأحزاب الجديدة، التى يعز عليها ترك الساحة للمنافسين، والتى تسعى للاستفادة من الحالة الانتخابية فى عرض برامجها السياسية على المواطنين. ولكنى لا أرى أى بأس أو حرج فى استدعاء هذه الأفكار القديمة لأنها لم تفقد صلاحيتها حتى بعد انقضاء ما يزيد على سبعة شهور على خلع مبارك.
●●●
ومن البديهيات أن الأمن مطلب لابد من توفيره لإشاعة الطمأنينة بين الناس، ولتمكين العمل السياسى عموما والانتخابات خصوصا من السير على خير وجه. ومن ثم يجب عدم الدخول فى عمليات انتخابية قبل إقرار الأمن. وهو ما يضع على كاهل سلطة الحكم الانتقالية إصلاح الأجهزة الأمنية واستكمال المتطلبات البشرية والمادية لاستتباب الأمن فى ربوع البلاد.
ومن البديهيات أيضا أن النظام السياسى ــ الاجتماعى الجديد لابد له من أساس متين، ولابد أن يسبق وضع الأساس وأعمال البناء إزالة مخلفات البناء القديم. ومعنى هذا أنه من الضرورى الإسراع بتطهير مؤسسات الدولة من الفاسدين وأعوان النظام السابق من جهة، وإتمام العزل السياسى لأعداء الثورة بعد إقرار نظام محكم ومعايير محددة لهذا الإجراء من جهة أخرى. إن عدم إنجاز هاتين العمليتين قبل الانتخابات يعنى منح الفرصة لأعداء الثورة للسيطرة على نسبة غير قليلة من مقاعد البرلمان، وتمكينهم من وضع أعوانهم فى لجنة صياغة الدستور، ومن ثم تتضاءل احتمالات الوصول إلى الدستور، الذى تصبو إليه القوى الثورية. وغير خافٍ أن القوى المضادة للثورة قد استغلت التراخى فى بدء عمليات التطهير والعزل، وسارعت بلم شملها وإعادة تنظيم نفسها فى أحزاب جديدة تنطق باسمها، وأنها تحشد كل إمكاناتها لخوض المعركة الانتخابية، لاسيما وأن للكثيرين من شخوصها خبرة جيدة بوسائل كسب الأصوات.
ومن المعلوم أن العربة لن تتحرك إلا إذا وضعت خلف الحصان، لا أمامه. ولا شك فى أن إرجاء وضع الدستور إلى ما بعد انتخاب البرلمان الجديد هو ترتيب غير منطقى للأمور، وهو بمثابة وضع العربة أمام الحصان أو الشروع فى البناء قبل وضع الأساس. ومما يجافى المنطق أن يتاح للسلطة التشريعية، التى ينظم الدستور أعمالها التحكم فى صياغة هذا الدستور، ولو بطريق غير مباشر من خلال اختيار من يعهد إليهم بصياغة مواده. ولذا فإننى لا أرى أى سبب يدعونا للقبول بهذا الترتيب غير الطبيعى للأمور، وأعتقد أننا سنوفر الكثير من الجهد والوقت، فضلا على تأمين الاتساق المنطقى، إذا عدنا إلى الفكرة القديمة التى لم تزل صحيحة، أى فكرة «الدستور أولا». ومن حسن الحظ أن جهدا طيبا قد بذل فى وضع المبادئ الأساسية للدستور وفى صياغة المعايير التى تحكم تشكيل لجنة وضع الدستور. ولا شك فى أن الإفادة من هذا الجهد سوف يمكننا من إنجاز الدستور الجديد فى مدة قصيرة، يمكن أن ننطلق بعدها بخطى واثقة على طريق استكمال بناء النظام الجديد، ونحن ندرك طبيعته (رئاسى ــ برلمانى)، وماهية نظامه البرلمانى (مجلس واحد أم مجلسان ــ بحصة للعمال والفلاحين أم بدونها ــ أسلوب انتخابه.. إلخ)، وما إلى ذلك من الأساسيات.
ومن المحبذ أن تتكامل مع عملية وضع الدستور الجديد عملية تجديد عناصر البنية التشريعية ذات الصلة بالحياة السياسية والمدنية. ويدخل فى ذلك قانون الأحزاب، وقانون مباشرة الحقوق السياسية، وقانون مجلس الشعب، وقانون مجلس الشورى إن تقرر استمراره، وقانون السلطة القضائية، وقانون النقابات، وقانون الجمعيات. فبإصلاح هذه القوانين سوف ينشط المجتمع السياسى والمجتمع المدنى، وتزداد فرص المشاركة الشعبية فى إدارة شئون البلاد، وتتوافر ضمانات أقوى لنزاهة الانتخابات.
وبالنظر إلى ما ظهر من انفراد المجلس العسكرى باتخاذ القرار، وتجاوزه الوكالة إلى وصاية أو ولاية، فضلا على عدم أهليته للعمل السياسى وممارسة شئون الحكم، تصبح العودة إلى الفكرة القديمة، التى تقضى بإنشاء مجلس رئاسى مدنى أمرا لا مناص منه للعبور الآمن للمرحلة الانتقالية. وحتى لا ننتقل من انفراد من نوع ما إلى انفراد من نوع آخر، يلزم انبثاق هذا المجلس، وكذلك الحكومة، عن كيان شعبى يعبر عن أهداف الثورة، التى يتعين تحديدها على نحو دقيق، والتى يتم التوافق عليها، وتكون له صلاحية التحدث باسم الثورة والتشاور والتفاوض مع سلطة الحكم الانتقالية. فبذلك تتوحد كلمة القوى المنتسبة للثورة، ويتحقق الانسجام بينها وبين المجلس الرئاسى والحكومة.
ويمكن تشكيل هذا الكيان الشعبى من 300 أو 400 شخص، على نحو يحقق التمثيل الجيد لمختلف فئات الشعب وتنظيماته المدنية (كالنقابات والجمعيات والاتحادات)، وقادة الفكر والعلم والفن والأدب وأصحاب الأقلام الحرة، ومن إليهم من الشخصيات المشهود لها بالنزاهة، والعناصر الشبابية والقوى السياسية، التى صنعت الثورة أو دعمتها. ويمكن الاسترشاد فى تشكيل هذا الكيان الشعبى بالأسلوب، الذى اتبع فى الدعوة لمؤتمر مصر الأول وفى تكوين المجلس الوطنى الذى انبثق عنه، وبالمعايير التى تضمنتها وثيقة مجلس الوزراء بشأن معايير تشكيل الجمعية التأسيسية لوضع الدستور، وأى قواعد أخرى قد يقترحها الناشطون فى المجال السياسى وفى المجتمع المدنى الحريصون على إنقاذ الثورة من الضياع. ويمكن أن ينتخب من هذا الشعبى المجلس الرئاسى المدنى. كما يمكن أن يختار منه أعضاء الحكومة الانتقالية، أو أن يكون اختيار هذه الحكومة ــ من داخل هذا الكيان، أو من خارجه، أو من داخله وخارجه ــ موضوعا للتشاور بين المجلس الرئاسى والكيان الشعبى.
وبالطبع فإن هذه ليست الكلمة النهائية بشأن تأسيس الكيان الشعبى المقترح، وبشأن تشكيل ما يمكن أن ينبثق عنه من هيئات للحكم أو لجان لدراسة الموضوعات المختلفة. فهذه أمور تحتمل اجتهادات كثيرة، ويجب الترحيب بكل اجتهاد يقدم بشأنها.
ومهما يكن من أمر، فإن على هذا الكيان الشعبى أن يضع للحكومة الانتقالية مستهدفات محددة تسعى لتحقيقها وفق نظام أولويات يتفق عليه مع المجلس الرئاسى المدنى. ولا شك أنه يجب أن يكون فى صدارة الأولويات إصلاح الأجهزة الأمنية ونشر الأمن، وتحسين مستوى معيشة الطبقات الشعبية، وتحقيق تقدم ملموس فى مضمار العدالة الاجتماعية، وإنعاش الاقتصاد من خلال موازنة توسعية تزيد الأجور والإنفاق على التعليم والصحة، وتزيد الاستثمارات العامة، التى يمكن أن يتجه بعضها لتحسين القدرات الإنتاجية والتنافسية لما تبقى من شركات القطاع العام، بينما يتجه بعضها الآخر للمشاركة مع القطاع الخاص والجمهور فى إنشاء عدد من المشروعات الإنتاجية، التى تسهم فى زيادة فرص العمل وتنمية الإنتاج. كما سيكون من أهم المستهدفات النظر بجدية فى المطالب المرفوعة من العمال والموظفين والفلاحين ومن إليهم لتحسين أحوالهم، ووضع جداول زمنية للتنفيذ التدريجى للمطالب المشروعة بالتعاون مع المنظمات النقابية والشعبية ذات الصلة.
ولتحقيق الاطمئنان، خاصة مع التمديد الذى يبدو حتميا للمرحلة الانتقالية طبقا لهذا التصور، يتعين أن يتعاون الكيان الشعبى المقترح والمجلس الرئاسى والحكومة الانتقالية فى وضع خريطة جديدة للمرحلة الانتقالية تبين التسلسل الزمنى لإنجاز مختلف مهامها، فضلا عن تحديد أجل الفترة الانتقالية ذاتها.
●●●
أما بعد، فقد كان هذا ما اعتقدت أنه السبيل الآمن لعبور المرحلة الانتقالية وحماية الثورة من الإجهاض فى غمار انتخابات لا تتوافر الظروف المواتية سياسيا وأمنيا لإجرائها.