خطاب ترامب: الدعوة لنظام دولى مختلف
ناصيف حتى
آخر تحديث:
الإثنين 1 أكتوبر 2018 - 10:35 م
بتوقيت القاهرة
الخطاب الثانى للرئيس ترامب أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة يشكل استكمالا لخطابه الأول العام الماضى ولتصريحاته المختلفة، ويقدم صورة شاملة هذه المرة لرؤية ترامب للتحديات الدولية وللقواعد التى يريدها أن تحكم السياسة الأمريكية وتلك التى يجب أن تنظم العلاقات بين الدول. إنها دعوة لنظام دولى مختلف، يسقط أو يهمش قيم التعاون الدولى المتعدد الأطراف.
صحيح أن الخطاب بدأ، ولو فى جزء صغير منه بمثابة رسالة إلى الداخل الأمريكى عشية الانتخابات النصفية فى نوفمبر لعرض الإنجازات التى حققتها الإدارة على جميع الأصعدة الدفاعية والاقتصادية والضريبية ومحاربة البطالة خاصة عند الأقليات بهدف تحسين صورته عند جميع فئات المجتمع الأمريكى.
لكن ترامب أراد بشكل خاص أن يشكل خطابه فى قضايا الأمن والازدهار، كما يقول، قطيعة مع ما سماه العقائد البالية والتى فقدت مصداقيتها، ويجمع بينها طابعها التعاونى الدولى وكذلك مع الخبراء الذين ثبت فشل نصائحهم ومقترحاتهم، حسب رأيه. أهم العناصر التى حملها الخطاب، والتى تعبر خير تعبير عن العقيدة الترامبية، كان التمسك «بمبدأ الوطنية» كقاعدة حاكمة وناظمة للسياسة الأمريكية: يندرج ذلك فى سياسات متحررة من أى التزام بقواعد أو أعراف أو نظم أو قيم التعامل الدولى المتعدد الأطراف عندما يمس ذلك بالمصلحة الوطنية، حسب هذه العقيدة.
إن مبدأ الوطنية هو الترجمة لشعار «أمريكا أولا» فى حربه ضد «أيديولوجية العولمة»، كما يقول الرئيس الأمريكى. العولمة التى التصقت دائما بالأمركة التدريجية للعالم من حيث نشر منظومة القيم الأمريكية السياسية والاقتصادية خاصة بعد نهاية الحرب الباردة وانتصار النموذج الغربى الرأسمالى الليبرالى.
***
ترامب يعتنق ما سماه بعقيدة «الواقعية المبدئية»، وهى لا تدعو للانطواء أو الانعزال عن العالم، ولكن إلى الانخراط بشروط مختلفة قائمة على المصلحة الوطنية حسب تعريف ترامب وبعيدة كل البعد عن التزامات تتأتى عن قواعد وقيم الليبرالية الدولية والتعاون المتعدد الأطراف.
إدارة ترامب انسحبت من عدة اتفاقيات وأطر تعاونية دولية وتتخذ موقفا متشددا، انسحابا أو وقف التعاون والمساعدات مع عدد من هيئات الأمم المتحدة مثل الانسحاب من مجلس حقوق الإنسان، ورفض دعم المحكمة الجنائية الدولية، وتخفيض الإسهام المالى الأمريكى فى موازنة قوات حفظ السلام الدولية.
ترامب يدعو لإعادة صياغة العلاقات التعاونية الدولية على أساس التوازن فى التبادل بين الدول، وبالتالى يتجه نحو نوع من الحمائية الاقتصادية على حساب الليبرالية الاقتصادية الدولية السائدة والتى كانت الولايات المتحدة قوة الدفع الأساسية لها. حسب ترامب، انتهى زمن العطاء الأمريكى دون مقابل، فلا يمكن، كما يقول، أن نوفر مظلة الأمن لدول دون أن تبادلنا المصلحة من خلال تقديمات فى مجالات أخرى. ويشير بهذا الصدد إلى دول الأوبك التى ترفع أسعار النفط فتؤذى بالتالى الاقتصاد الأمريكى، فيما الولايات المتحدة توفر الأمن للعديد من دولها.
الواقعية المبدئية عند ترامب تدفعه لوضع الحلفاء التقليديين فى نفس الخندق مع الآخرين، بغية إعادة تحديد العلاقة على قاعدة المصلحة المتبادلة أو المشتركة بين الولايات المتحدة وكل من هذه الدول بعيدا عن عناوين التعاون والتضامن الدوليين.
خطاب ترامب يتسم بالتهميش إن لم يكن بالاحتقار لكل مفاهيم التعاون الدولى المتعدد الأطراف القائم على صيغ وعناوين عالمية. خطاب يتسم بنوع من التبسيط والمزاجية والحدة فى النظرة إلى عالم شديد التعقيد وشديد التداخل والترابط فى القضايا وفى المصالح المشتركة بين جميع أطرافه.
***
صحيح أن العولمة حاملة لأوجه سلبية، وحتى خطيرة على دول معينة وعلى قطاعات اقتصادية مختلفة، ولكن لها أوجه ايجابية عديدة أيضا فى قضايا مختلفة، من حيث تعزيز أشكال متنوعة من التفاعل والتعاون المتعدد الأطراف لمواجهة مشاكل لا يمكن التعامل معها بنجاح على الصعيد الوطنى فقط. فالعودة إلى إقامة الجدران بين الدول وتشجيع التنافس الحاد الحامل للتوتر والقطيعة أحيانا، ليس هو الحل الأمثل للتعامل بنجاح مع تحديات تتخطى الأطر الوطنية والإقليمية فى كثير منها، أيا كانت قوة هذه الدولة أو تلك.
فدعم الثقافة التعاونية الدولية وتعزيز أطر الدبلوماسية المتعددة الأطراف، أيا كان القصور والسلبيات التى عانت منه هذه الأخيرة، أمر أكثر من ضرورى لخدمة الاستقرار والسلم فى «القرية الكونية» التى نعيش فيها.
خطاب ترامب الذى يذكرنا بطروحات جون بولتون، مستشاره للأمن القومى عندما كان سفيرا لبلاده لدى الأمم المتحدة، خطاب يدعو للعودة إلى نظام دولتى تقليدى يحمل جميع أنواع التوترات والمواجهات بحيث يكون الجميع خاسرين فى نهاية المطاف، إذ إن تحديات اليوم المتزايدة بحاجة لدبلوماسية تعاونية تضامنية تعالج الحرائق المشتعلة فى جميع أرجاء العالم والتى تطال مصالح الجميع ولو فى لحظات مختلفة.
كاتب سياسى لبنانى
الاقتباس
ترامب يعتنق ما سماه بعقيدة «الواقعية المبدئية»، وهى لا تدعو للانطواء أو الانعزال عن العالم، ولكن إلى الانخراط بشروط مختلفة قائمة على المصلحة الوطنية حسب تعريف ترامب وبعيدة كل البعد عن التزامات تتأتى عن قواعد وقيم الليبرالية الدولية والتعاون المتعدد الأطراف.