قاسم عبده قاسم «المؤرخ النهضوى»
إيهاب الملاح
آخر تحديث:
السبت 1 أكتوبر 2022 - 8:28 م
بتوقيت القاهرة
ــ 1 ــ
سنة مرت سريعا على رحيل عالم جليل ومؤرخ صار علمًا على مدرسة أصيلة فى البحث التاريخى والقراءة التاريخية فى الجامعات المصرية والعربية فى العقود الأربعة الأخيرة. عن المرحوم الدكتور قاسم عبده قاسم أستاذ تاريخ العصور الوسطى بجامعة الزقازيق، والمؤلف والمترجم والباحث الموسوعى الذى قدَّم للمكتبة العربية أكثر من 200 كتاب تشكِّل فى مجموعها جهدًا موسوعيًّا «مذهلًا» تعجز مؤسسات بكاملها عن إنجاز نصفه، كمًّا ونوعًا!
يصف أحد تلاميذه (د.عمرو عبدالعزيز منير) هذا العطاء المذهل وهذا الإنجاز الرائع بقوله:
«جاءت كتاباته التاريخية؛ لتعطى المؤرخ صورًا أكثر مصداقية عمّا حوته الكتابات ذات الصبغة الرسمية، وكإضافةٍ حقيقية إلى تاريخ مصر، بكل ما تضمنّه من إيحاء ودلالة وصدق لجزئيات الواقع الحياتى المجتمعى، فى وقتٍ ساد اغتراب العلم التاريخى وتجاهله وتهميشه لدور الناس والجماعات الشعبية فى صنع التاريخ. فوجّه تلاميذه فى الدراسات العليا إلى التركيز على دور الصنَّاع الحقيقيين لتاريخ مصر والعرب، ولثورات التحرر فى الوطن العربى، ودراسة القوى الشعبية، ورؤيتها لذاتها، وللأحداث من حولها».
ــ 2 ــ
توفى المرحوم قاسم عبده قاسم عن 78 عامًا (رحل عنا يوم 26 سبتمبر 2021) وقد أفنى جلّ عمره فى خدمة الثقافة المصرية والعربية، وبالأخص فى حقل الدراسات التاريخية التى صال فيها وجال بأعمالٍ تشهد برسوخ علمه وواسع معرفته وعميق تكوينه.
وبرغم تخصصه الدقيق فى تاريخ العصور الوسطى، فإنه انطلق من هذا التخصص إلى آفاق رحيبة جدًّا، حتى أصبح أحد أهم رواد المدرسة التاريخيّة المصرية منذ الربع الأخير من القرن العشرين. كان مؤرخا مفكرا واسع النظر عميق التأمل صاحب موقف ورؤية، وكان من القلَّة التى حققت المعادلة النهضوية التى أرساها طه حسين؛ وهى أن المثقف بالمعنى الشامل والدقيق لهذه الكلمة ليس منكفئا على ذاته معزولا فى برجه العاجى، متقوقعا على أوراقه بين كتبه ودراساته؛ بل هو شخص فاعل ومؤثر فى محيطه الاجتماعى يمارس مهامه الجامعية أو الأكاديمية بكفاءة واقتدار (محاضرة وتدريسا وتأليفًا وشرحًا والمساهمة الفاعلة والحقيقية والجادة فى تكوين وإعداد وتأهيل طلابه.. إلخ)
وفى الوقت ذاته يتوجه بأفكاره ومساهماته إلى المحيط الأكبر خارج أسوار الجامعة، فيساهم فى المجال العام (ثقافيا واجتماعيا وسياسيا.. فى حدود ما يُسمح له بذلك!) فيكتب المقالات الموجهة للقارئ العام فى الدوريات والصحف والمجلات، ويشارك فى المحاضرات والندوات العامة، ويمارس مهامه التثقيفية والتنويرية بكفاءة واقتدار وبكل السبل المتاحة أمامه مهما كانت، وبالجملة فى سعيه لإنشاء تيار ثقافى وفكرى يعتمد الوعى والعقل والعقلانية وسيلة للفهم والإدراك، ويوظف معارفه التاريخية وقدراته المعرفية والمنهجية فى فهم الإشكالات والأزمات التى يعانى منها المجتمع والناس، ويسعى لطرح حلول مقترحة أو حتى أفكار لهذه الحلول بمشاركة مثقفين وطنيين آخرين.
ــ 3 ــ
سنوات طويلة من المعايشة والقراءة الممتعة لكتب الدكتور قاسم، قبل أن أحظى بفرصة التعرف عليه وأتشرف بلقائه والاستماع إليه والتسجيل معه وجهًا لوجه بشكل مباشر، ذات صيف من العام 2010، وأدركت تمام الإدراك أن لدينا مثقفا واسع الثقافة ومؤرخا كبيرا جدا اسمه قاسم عبده قاسم؛ وقد شرفنى بحوارٍ معه من أهم الحوارات التى أجريتها فى مشوارى الصحفى كله، وما زلت أحتفظ بهذا التسجيل الصوتى النادر فى أرشيفى الذى أعتز وأفخر به كثيرا.
صار قاسم عبده قاسم أحد أساتذتى الأصلاء الأجلاء، وصديقا أزهو وأفتخر بأننى أنتسب إلى دوحة تلاميذه وأصدقائه ومريديه.. إنه الأستاذ صاحب الفضل الذى تعلمنا منه، وما زلنا نتعلم، قيمة وشرف البحث التاريخى الجاد الحقيقى، وقيمة الدأب والموسوعية وقيمة الجدية والمثابرة (وهل أنسى أنه أخبرنى فى حوارى المفصل معه المشار إليه، أنه عكف على قراءة 300 كتاب كاملًا باللغتين العربية والإنجليزية، وهو بصدد الإعداد لأطروحة الماجستير! ولك أن تتخيل كم ونوع الكتب التى قرأها أثناء الإعداد لأطروحة الدكتوراه!)..
الأساتذة الكبار لا نتلقى منهم فقط المعلومات (وهى مطروحة فى الطرقات لمن شاء!) بل المهم كيف ستنتظم هذه المعلومات فى إطارٍ دقيق ومحكم، ومنهج ورؤية للبحث والتحليل؛ الأستاذ الحقيقى هو الذى يعلِّمك كيف تفكر وتستقل بتفكيرك لا أن تكون نسخة مكرورة ممن سبقك.
والأستاذ الحقيقى هو الذى يمنحك الحرية كاملة فى القراءة والبحث، ويمنحك حرية التعبير عما توصلت إليه بأناقة وجمال، ويحثك على أن تغنى معارفك وتوسع من أفقك دون أن تتقوقع على نفسك وتنغلق على ذاتك بزعم (أو بوهم!) الالتزام بحدود التخصص الضيق، ومن ثم تقع فى فخ العزلة المعرفية والانقطاع المعرفى الذى يدعى من لا يملكون القدرة ولا المهارة ولا الثقافة ولا العلم أنها التزام منهجى بحدود التخصص العلمى! وكان الله بالسر عليما، ولا حول ولا قوة إلا به!».
ــ 4 ــ
أخبرنى الدكتور قاسم فى حوارنا أن التاريخ لا يُكتب إنما يُفعل! التاريخ يُصنع؛ يصنعه الناس فى مسيرتهم، ثم يُقرأ فى كل عصر؛ حسب مصلحة العصر، وحسب زاوية الرؤية التى يريد كل أصحاب مصلحة أن يقرءوه من خلالها. ونحن لا ندرس التاريخ كى نستمع إلى قصص وحكايات، وأساطير ومرويات، أو وقائع غريبة وعجيبة وما إلى ذلك.. إلخ، نحن نقرأ التاريخ لنفهم حاضرنا ونستشرف مستقبلنا. فالتاريخ علم لا ينتمى إلى الماضى إلا من حيث مادته فقط، إنما هو علم يتصل اتصالًا وثيقا بالحاضر والمستقبل. ومن عرف نفسه من خلال تاريخه، عرف كيف يتلمس طريقه إلى المستقبل.
وكان يرى أن المؤرخ الحقيقى يختلف عن المؤرخ الأيديولوجى الذى يقوم بالتنظير والدعوة لفكرة معينة، فالمؤرخ لا يجب أن تحكمه الاعتبارات الفكرية، إذ إن ميدان عمله الحقيقى هو الدراسة المتأنية، والصارمة، للحدث التاريخى.. (وللحديث بقية)