كتاب الخواجاية فيه شفاء للناس
سيد محمود
آخر تحديث:
الثلاثاء 1 أكتوبر 2024 - 5:50 م
بتوقيت القاهرة
قبل شهور أخبرنى الأصدقاء فى دار الشروق بأنهم بصدد نشر كتاب بعنوان (الخواجاية) للكاتبة فيمونى عكاشة التى كنت قد تعرفت عليها قبل عدة شهور، وأبلغتنى بأنها دخلت أكثر من ورشة للكتابة، وباشرت كتابة عملها الأول.
ما أثار اهتمامى حقًا أن كاتبًا كبيرًا، مثل محمد المخزنجى كتب مقدمة للكتاب يقارن فيها بين حساسية هذا النص، وما كتبته الفرنسية الحائزة على نوبل آنى إرنو.
يقرر المخزنجى بكل اطمئنان، أن عمل فيمونى عكاشة أرحب وأجمل وأغنى من عمل آنى إرنو، برغم أن التيمة واحدة، وتدور حول ابنة ترصد مآل أمها التى يبتلعها ما يسمونه الخرف فى أعقاب جلطة بالمخ.
تحكى فيمونى فى كتابها قصة حب عابرة للبحار والأقطار، بين والدها مهندس النسيج المصرى وأمها جيردا الهولندية، أو «الخواجاية»، كما سمّاها محيطها المصرى الذى لم تعش خارجه أو على أطرافه بل فى قلب قلبه.
ولأنى أعرف أن المخزنجى لا يجامل فقد كان فضولى كبيرا إزاء الكتاب الذى قرأته باهتمام بالغ ووجدت فيه شفاء للناس من ألم اللحظات التى نعيشها، كما أنه يمثل أبلغ رد على قبح العالم فى تلك اللحظات بالذات، حيث تشيع رائحة الموت فى الجوار.
لا ينتصر الكتاب فقط لقصة حب وإنما لفكرة الحياة ذاتها ولقيم التعددية الثقافية والتنوع التى يجرى دهسها فى غزة وبيروت.
تجدد الحرب أقسى صور العنصرية والإبادة الجماعية فى حين يمكن للقارئ أن يرى فى الكتاب صورة حية من صور احترام التعدد وقبول الآخر، فما ينشده بالضبط هو توجيه النظر ناحية (الهويات المتصالحة) بدلًا من الهويات القاتلة التى تفيض بها الشاشات.
تواجه القارئ حيرة الراغب فى تصنيف الكتاب، فهو سيرة فيها من الواقع قدر ما فيها من الخيال، إلا أن قدرة الكتاب على تخطى التصنيف والعبور مع القارئ بين أكثر من نوع أدبى تضيف إليه حساسية جديدة وتمنحه قدرًا من التفرد.
يمكن التعامل مع الكتاب من مداخل متنوعة، فهو مصدر للتاريخ الاجتماعى لمن يرغب في التعرف على ما عاشه الناس فى أوروبا بين الحربين، أقرب إلى ما يسميه المؤرخون (التاريخ من أسفل)، لكنه يتعامل مع التاريخ بنظرة جمالية وإنسانية أكثر إيمانًا بمفهوم التفاصيل الإنسانية.
تصنع فيمونى ما يسمى بالنسيج السردى اعتمادًا على أرشيفات عائلية متنوعة عثرت عليها بعد كثير من (النبش) فى إدراج الأم والخالات، لكنها تشيد بخيالها المنير معمارًا فنيًا هائلًا يشير إلى قدراتها العقلية الفذة فى استثمار التفاصيل وتطوير جماليات التذكر، فالذاكرة أداة رئيسية للتعامل مع التخييل ناحية ما يسمى الكتابة بقوة اليوميات، حيث كانت الأم حريصة على تدوين يومياتها بدقة، لكن من الصعوبة تأسيس بناء فنى على تلك اليوميات وحدها ومن هنا يمكن التعامل مع موهبة فيمونى التى خاضت اختبارا صعبا لكتابة وجدانها وطرحه على طاولة أمام قراء لا تعرفهم ولا يعرفون شيئًا عن عائلتها، لكنها نجحت تمامًا فى أن تجعلنا أفرادًا فيها بفضل الطاقة النورانية التى تشع من سطورها.
يبدو النص بالغ الرحابة، وهو يدل القارئ على طرق التربية داخل أسرة هولندية عادية، كما يدله فى مواضع أخرى على قصص عائلات مصرية ظل مفهومها عن النجاح وتربية الأولاد مرتبطًا بالتفوق العلمى أكثر من السعى نحو تكوين الثروة والنفوذ.
هؤلاء هم مساتير الناس الذين يسعون إلى نهضة الوطن ويبلغونها فى إطار سعيهم نحو تحقيق الذات، فما أجمل المثال الذى تقدمه عائلة (سعودى) التى كانت سببًا لتعبر جيردا من غربها الجميل إلى بلادنا.
كما يشير الكتاب بقوة إلى ما خسرته مصر خلال أكثر من 70 عامًا شهدت خلالها موجات من الاعتداء على الجمال الذى كانت تزخر به مدننا، سواء كانت مدنًا كبيرًا أو صغيرة، فالصورة التى تحكى عنها جيردا عن الإسكندرية والقاهرة بل المحلة لم يعد لها وجود تقريبًا إلا فى الصور التى يضمها الكتاب الذى يعزز المعنى الكامن فى مفردة جميلة هى (العمران) التى تقدم التعريف الأجمل لمعنى الحداثة.