القاتل والقتيل!

سلامة أحمد سلامة
سلامة أحمد سلامة

آخر تحديث: الأحد 1 نوفمبر 2009 - 9:36 ص بتوقيت القاهرة

 لا تمثل الموسيقى فى الثقافة الأوروبية مجرد تعبير عن الطرب والانتشاء، ولكنها ترتقى إلى نوع من المتعة العقلية والروحية والعاطفية العميقة، التى تعبر عن الإنسان فى مختلف أطواره وأحواله.. فى حالات لا تحصى من الحزن أو الفرح، والخشوع أو التأمل وفى ترتيل الصلوات فى الكنائس.

ولذلك كان مثيرا للدهشة أن تطلب دار الأوبرا المصرية بناء على موافقة وزير الثقافة إرجاء أو إلغاء العروض الموسيقية التى كان المفروض أن تقدمها أوبرا دريسدن، مشاطرة من أهالى دريسدن فى المواساة والأسف على مقتل الشابة المصرية مروة الشربينى.. وذلك فيما يدعيه البعض من أنه حفاظ على مشاعر أسرة الفقيدة.

وعلى الرغم من أننى استبعد أن يكون هذا هو السبب الحقيقى، فهو يدل على الهوة العميقة الفاصلة بين ثقافتين، وعلى عمق الشعور بالصدمة فى الشارع العربى والإسلامى وبين جموع المسلمين الذين يقيمون فى ألمانيا. وإن كانت وسائل الإعلام قد صبت الزيت على النار فى بعض الأحيان، خوفا من أجواء التعصب التى قد تسهل للمجرم الإفلات بجريمته.

فقد جرت العادة طوال الفترة التى تميزت بالاحتقان فى العلاقات بين فئات المهاجرين من أصول عربية وإسلامية والمجتمعات الأوروبية التى يعيشون فيها، على أن يكون العكس هو الصحيح.. أى أن تتسبب ظروف الاضطهاد والتعصب الدينى أو سوء المعاملة فى اندفاع شاب مسلم إلى الاعتداء على شخص يكون قد أساء إليه أو أهان مشاعره..

ولكن فى هذه المرة وقع العكس وجاء الاعتداء من شاب روسى ألمانى متعصب على شابة مسلمة مسالمة، ربما لأن سوء حظها هو الذى وضعها وجها لوجه مع مهاجر روسى من أصول ألمانية، حمل معه كل الأحقاد التاريخية، ومركبات النقص التى عانى منها ملايين النازحين الألمان فى الأراضى الشرقية من أوروبا.. الذين تعرضوا للاضطهاد وسوء المعاملة فى سنى الحرب، ثم فى ظل الأنظمة الشيوعية. وحين انفتحت أبواب الغرب أمامهم عوملوا كمواطنين من الدرجة الثانية.

وعندما وقع الاعتداء الوحشى على مروة الشربينى وهى حامل فى شهرها الثالث، بعد سلسلة من المشاحنات التى اعتدى عليها فيها الروسى أليكس بالسب والإهانة، وقضت المحكمة بتغريمه 750 يورو، ساد ظن روجت له صحف ألمانية ومصرية بأن السبب هو الحجاب الذى استفز الجانى ودفع به إلى الصدام مع مروة. وكانت مشكلة الحجاب والنقاب ومازالت تثير لغطا مزعجا فى الأمة العربية.

ولكن الحقيقة التى يعرفها المترددون على ألمانيا، أن الحجاب لم يعد مشكلة تستفز المجتمع الألمانى، على عكس ما هو عليه الحال فى فرنسا، وأن وجود ما يقرب من 3.5 مليون مسلم فيها، أفقد قضية الحجاب كثيرا من سخونتها.

وقد أصبحت المشكلة فى ألمانيا وفى عديد من الدول الأوروبية تنحصر فى تعثر وفشل السياسات والإجراءات التى تكفل عملية اندماج الأجانب عن طريق الاهتمام بتعليم اللغة، والاعتراف بالحقوق الدينية، وتوفير أماكن عمل لما يقرب من 15 مليون من المهاجرين الذين يمثلون 19٪ من مجموع سكان ألمانيا.


وطوال العقدين الأخيرين، بذلت جهود كثيرة فى حوارات متعددة بين الإسلام والغرب، وبعبارة أدق، بين المثقفين والمفكرين وعلماء الدين من الجانبين، فى محاولة لإقامة جسور من التفاهم والتواصل بين أتباع الأديان المختلفة. وقد أقامت ألمانيا مؤتمرا للمسلمين الألمان برعاية الحكومة، سلطت الأضواء على القيادات المسلمة فى المجتمع الألمانى وتعزيز دورها فى حل مشكلات الجاليات الإسلامية. ولكن قلل من فاعليتها دخول أبعاد أمنية للتجسس على المسلمين وتتبع المشتبه فيهم.

وهنا لابد من الاعتراف بأن تركيزنا على الاهتمام بالمؤتمرات التى تدار فيها الحوارات بين الإسلام والغرب استغرقت كثيرا من الجهد والوقت دون طائل. وأخشى أن يكون أحد بل أهم سبب فى عدم ردم الهوة بين الإسلام والغرب، يرجع بالدرجة الأولى إلى حالة الصراع الدموى والخلاف العقائدى والفكرى فيما بين المسلمين أنفسهم.

وفى دفاعه عن القاتل كانت الحجة التى ساقها محاميه أن الأجواء العالمية المحيطة التى شوهت صورة الإسلام نتيجة الجرائم الإرهابية التى لا يمضى يوم دون أن تقع هنا أو هناك هى التى زرعت مشاعر التعصب والكراهية فى عقل المتهم وحرضته على ارتكاب جريمته.

وحين ينظر المرء لما يجرى فى العالم الإسلامى على اتساعه، يصبح ويمسى وهو لا يسمع غير أبناء القتل والتفجير الذى يذهب ضحيته عشرات ومئات المسلمين فى باكستان كل يوم تقريبا، والهجمات الانتحارية فى العراق بعد أن ساد وهم كاذب بأن فجر السلام والاستقرار قد عاد إلى العراق، وأصبحت قوات الاحتلال الأمريكية على شفا الانسحاب.

ولم يعد الأمر يقف عند حدود باكستان وأفغانستان بعد العراق، بل امتد إلى اليمن وقبل ذلك إلى السودان ودارفور، فضلا عن المذابح اليومية فى الأراضى الفلسطينية المحتلة والتى انقلبت إلى صراع دامٍ على قشور السلطة بين الفلسطينيين أنفسهم. وقد نغض الطرف عن الاحتكاكات التى تقع فى لبنان، ولكنها تبقى علامة على وضع قابل للانفجار.

يتلفت المسلمون والعرب حول أنفسهم، بحثا عن الأعداء والخصوم، فلا يجدون أمامهم غير إسرائيل وأمريكا وأوروبا. ولكنهم أبدا لا يبحثون عن الأعداء فى أنفسهم وبين ظهرانيهم، ويغرقون فى منازعات حول الحجاب والنقاب، وبين المذاهب والطوائف، سرعان ما يستغلها الآخرون.

الأرجح أن تنتهى محاكمة قاتل مروة الشربينى طبقا للقانون الألمانى بالحكم بالسجن مدى الحياة «15 عاما»، ولكن تبقى المشكلة التى تهدد الأمة العربية والإسلامية كلها.. مشكلة الاستسلام للفشل والقبول بنمط للحياة لا يصنع التقدم ولا يولد غير الحروب والمنازعات فيما بينهم.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved