عندما يتقابل الدين والآراء المختلفة
نجوان الأشول
آخر تحديث:
الإثنين 1 نوفمبر 2010 - 10:25 ص
بتوقيت القاهرة
كان هذا هو عنوان المؤتمر السنوى لقسم الشئون السياسية بوزارة الخارجية السويسرية الذى دُعيت للمشاركة فيه مع عدد كبير من السياسيين والباحثين فى مجال الإعلام والسياسة، والنشطاء فى مجال حل النزاعات لمناقشة تشابكية العلاقة بين الدين والعوامل المجتمعية، التى تؤدى فى بعض الأحيان إلى توتر العلاقات الداخلية وأيضا الخارجية بين الشعوب المختلفة.
كان تصورى الأولى والذى ذهبت به إلى المؤتمر أنه قد يكون وسيلة من أجل تحسين صورة سويسرا بعد قضية حظر المآذن، التى كانت تعد سابقة قننت بها سويسرا حظر المآذن فيها كرمز دينى، وتلاها بعد ذلك قوانين حظر النقاب فى بعض الدول الأوروبية، وذلك من خلال نقاشات وحوارات مجاملة تفتقد للواقعية والمنطقية. ولكن مع بداية المؤتمر والذى استمر ليوم كامل وجدت أن الأمر مختلف، فقد قدم المؤتمر لى صورة شديدة الواقعية عن نقاشات النخب البحثية والإعلامية والسياسية السويسرية لقضية حظر المآذن التى توقعت عدم التطرق إليها إلا مرور الكرام، لكنى وجدت أنها تظهر فى معظم النقاشات خاصة فى الجلسة التى كانت بعنوان (قوة الإعلام)، وجلسة (آليات نشر العيش المشترك) فى الداخل وبين الشعوب المختلفة.
فقد تم مناقشة الكيفية التى تستطيع بها وسائل الإعلام فى سويسرا وفى أوروبا بشكل عام إنتاج الصور النمطية السلبية عن الإسلام والمسلمين، إما لأهداف ربحية أو لأهداف تحقيق مكاسب سياسية لصالح اليمين المتطرف، أو لاعتبارات نقص فى الكفاءات الصحفية فى موضوعات ذات خصوصية شديدة تحتاج إلى دراية ومعرفة كبيرة قبل التصدى إلى تغطيتها، فمثلا اتفق المشاركون على أن معظم وسائل الإعلام تقوم بعمل ترابطات غير منطقية بين الصفات السلبية وبين المسلمين، مع إغفال الحديث عن أى جوانب إيجابية، الأمر الذى يؤدى بضرورة إلى تكريس الصور النمطية السلبية عن المسلمين والإسلام. وأيضا من الأمور الملفتة للنظر فى المؤتمر عدم استبعاد لأى طرف من أطراف قضية المآذن فقد كان هناك ممثلون لحزب الشعب اليمينى المتطرف ونشطاء سويسريون مسلمون وممثلون للحكومة فى جلسات المؤتمر والذين ظهروا معا فى نقاش الجلسة الأخيرة التى أظهرت وبقوة الجدل الساخن الدائر بين قوى اليمين الراديكالى فى سويسرا من جانب وممثلى الحكومة ونشطاء مسلمين من جانب آخر،
وهنا يستحضرنى نقاش دار بين هذه الأطراف، ففى الوقت الذى قامت به ممثلة حزب اليمين الراديكالى بتبرير إطلاق المبادرة بهدف الإبقاء على المجتمع السويسرى على حاله دون إحداث تغييرات فى شكله ليصبح كدولة عربية، بالإضافة إلى اتهامها الأقلية المسلمة بأنها غير مندمجة فى المجتمع، رد كل من المتحدثة المسلمة وأحد ممثلى الحكومة بشكل شديد ومتوافق على أن درجة اندماج الأقلية المسلمة فى سويسرا عالية للغاية، وأن اليمين الراديكالى قام بهذه المبادرة لأهداف خاصة به تتنافى مع الحقائق الموجودة على الأرض، وأنه لتحقيق هذه الأهداف قام بتطويع مشكلات خارجية واستغلالها فى نشر خطاب عدائى عن الأقلية المسلمة.
مثل هذا النقاش وبهذه الكيفية يتيح لنا النظر إلى عدم وجود تواطؤ فيما حدث فى قضية المآذن بين الحكومة واليمين المتطرف. نعم كان هناك إهمال من قبل الحكومة لخطورة الخطاب اليمينى الراديكالى وآلياته التى استخدمها لتحريك مشاعر العداء بين الجماهير، بل ولايجاد مشاعر عدائية لأقلية اختارت الاندماج الطوعى المطلوب فى المجتمع من خلال إتقان اللغة والتمسك بقيم المجتمع العامة.
ولكن كان هناك أيضا إهمال من قبل المؤسسات والمراكز الإسلامية التى أنشأت لأغراض كثيرة ولكن الأهم هو التصدى لمثل هذا النوع من الخطاب والابتعاد عن خلافات فرعية لا طائل من ورائها سوى تفريق الكلمة حول من لديه الحق فى التمثيل الرسمى للأقلية المسلمة وما هى صفاته ونوعه وشكله ومذهبه وبالتالى الحديث باسمها، أو خلافات من قبيل الجدل حول إجازة أو تحريم الصلاة فى مساجد بنيت بقروض بنكية، أو الصلاة فى مساجد لا تتبع لنفس المذهب الإسلامى، أو الجدل حول إمكانية تمثيل امرأة غير محجبة للمسلمين فى البرامج التليفزيونية وفى الصحافة!!
كذلك تكشف لنا موضوعية النقاط التى طرحت من جانب الأكاديميين والباحثين فى المؤتمر، وجود فجوة حقيقية بين الخطاب الأكاديمى والبحثى وبين الخطاب الإعلامى، فالأول يتصف بالرصانة والمعرفة العميقة وبتعميق فكرة مسئولية الدولة فى إيجاد الوعى والإدراك الجمعى لمواطنيها ومسئولية الأغلبية عن نشر سياسة الإخاء الوطنى فى المجتمع لأنها الأقوى، والثانى يتصف بالسطحية والبحث عن القضايا الساخنة من أجل الربح دون الاهتمام بتأثير ذلك على وحدة النسيج الوطنى وعرى الارتباط والولاء القومى.
فى الحقيقة، هذه الخبرة تكشف لنا عن وجود اختلاف كبير فيما يحدث فى عالمنا العربى وبين ما يحدث فى سويسرا فى كيفية إدارة النقاش الوطنى. فمنظمو المؤتمر جهات رسمية تابعة للدولة لم تخش من فتح النقاش ودعوة وسائل إعلام وشخصيات داخلية وخارجية، دون استبعاد لأطراف داخلية لا ترضى عنهم لسبب أو لآخر، إيمانا منها بأنها الوسيلة الوحيدة لتبادل الخبرات لحل قضية داخلية تؤثر على العلاقات الداخلية بين أبناء الوطن، بل وعلى الصورة الخارجية للدولة وبالتالى علاقاتها فى المحيط الخارجى.
أما على الجانب العربى فيتم مناقشة القضايا المتعلقة بالأقليات فى غرف ودوائر مغلقة، يحظر فيها دخول وسائل الإعلام ويستبعد فيها من نختلف معه فى الرأى بدعوى الرغبة فى المناقشة البناءة والوصول إلى حلول خلاقة دون مشاحنات، متناسين فيها أن الاختلاف فى الرأى هو السبيل الوحيد للتعرف على الصورة الكلية والجوانب الخفية عن إدراكاتنا البشرية التى مهما اتسعت لا يمكنها بحال من الأحوال أن تكون شاملة للقضايا وتعقداتها الداخلية.
من ناحية أخرى، أجد تشابها كبيرا بين أوروبا والعالم العربى فى التباعد بين الخطاب الأكاديمى والبحثى من جهة وبين الخطاب الإعلامى من جهة أخرى، الذى يطرح وبقوة الأزمة بين المثقف المستنير والجماهير فى العالم.
فالخطاب الدينى الوسطى، والليبرالى والاشتراكى المستنيرين فى انحسار وتراجع مستمر أمام الخطابات الراديكالية فى الشمال والجنوب وهذا قد يرجع إلى رضا الباحثين والمثقفين بأن دورهم الكتابة وفقط، وكذلك تضييق الخناق على الأصوات الصادقة والحيلولة دون وصولها للإعلام، ونقص شديد فى المعرفة عند القائمين على الرسائل الإعلامية بالآخر الداخلى والخارجى والكيفية التى لابد أن يقدم فيها الخطاب للرأى العام فى موضوعات شديدة الحساسية وشديدة التأثير على التماسك الداخلى والعيش المشترك.
فى الحقيقة، إن مثل هذا النقاش أراه كباحثة مهما على طريق نشر المناخ الصحى بين الأغلبية والأقلية فى بلد عُرف بحياديته، وأراه بداية مهمة لآلية جديدة من آليات الدبلوماسية الشعبية التى تؤكد حيادية دور الدولة فى التوترات الداخلية ورغبتها الصادقة فى الوصول إلى توافقات جمعية وحلول وسط ضامنة لحقوق الأغلبية والأقلية ودافعة لتسليط الضوء على مسئولية الأغلبية فى احتواء الأقلية دون إساءة استخدام قوتها فى سن القوانين للتضييق على أفراد الأقلية. وأيضا تؤدى هذه التوافقات إلى قيام الأقلية بتأكيد تمسكها بالهوية الجمعية الوطنية والابتعاد عن هوية خيالية لدول أو كيانات تختلف معهم فى الموروثات الثقافية والسياقات المجتمعية أكثر مما تتفق. كذلك إن قيام الحكومة السويسرية بإعادة النظر فى كيفية حل مشكلة تزايد العداء ضد الأقلية المسلمة يحتم عليها القيام بإشراك جميع الشخصيات والمؤسسات الإسلامية حتى المختلفة معها فى النقاشات العلنية و«المغلقة» خاصة تلك التى أنشئت أثناء قضية المآذن، وأصبحت تكتسب جماهيرية فى أوساط الأقلية المسلمة حيث إن ذلك يؤدى إلى معالجة القضايا بشكل حقيقى، ويؤدى بدوره أيضا إلى إمكانية وضع استراتيجية شاملة للحد من تزايد العنف بأشكاله ضد الأقلية المسلمة فى سويسرا والذى قد يكون مثالا يحتذى به فى أوروبا بشكل عام كما حدث فى قضية «تقنين» حظر المآذن.
أيضا، إن هذه الخبرة توجه انتباهنا إلى حاجة مجتمعاتنا العربية لإشراك جميع الأصوات والأطراف، ولكسر التابوهات والخطوط الحمراء التى بنيت بدعوى الحفاظ على الوحدة واللحمة الداخلية الوطنية وأحسبهم عن ذلك ببعيد.