شعبويّة ترامب.. والفوضى المقابلة
سمير العيطة
آخر تحديث:
الأحد 1 نوفمبر 2020 - 9:10 م
بتوقيت القاهرة
ينتظر العالم بكثير من الترقّب، بل والقلق، نتيجة الانتخابات الرئاسيّة الأمريكيّة. هذا فى وقتٍ تحتدم فيه المنافسة هناك بين رئيسٍ حاليّ «شعبويّ: ذى مشهديّة لافتة وبين رئيسٍ مسنّ يبدو أنّ فوزه قد يعيد الولايات المتحدة إلى نوعٍ من العقلانيّة، على الأقلّ على صعيد الخطاب السياسيّ الداخليّ والخارجيّ.
لكن هل حقّا سيجلِب تغيير الرئيس تبدلا كبيرا فى السياسات الخارجيّة للولايات المتحدة؟ هذا ليس أكيدا. بل يُمكن أن يكون العكس صحيحا. أى ّأنّ الرئيس الحالى ترامب إذا ما أُعيدَ انتخابه للمرّة الثانية سيكون متحرّرا من الاستحقاقات الانتخابيّة وستكون له حريّة أكبر حيال مجموعات الضغط (اللوبيّات) الاقتصادية والسياسيّة التى توجّه جوهر السياسات الأمريكيّة. بالمقابل يُمكِن أن تلعب هذه «اللوبيّات» دورا كبيرا فى حال فوز منافسه بايدن.
أمّا التخوّف الأكبر فمصدره أن تأتى نتائج الاقتراع غير حاسمة ممّا قد يأخذ الولايات المتحدة إلى اضطرابات داخليّة ذات تداعيات محليّة ودوليّة. على العكس، إذا حصل التغيير بشكلٍ واضح وهادئ فربّما سيأسَف العالم على رئيسٍ أمريكيٍّ يقول صراحةً ودون مواربة ما تسعى إليه سياسات الدولة العميقة فى بلاده التى لا تتغيّر كثيرا.
شعبويّة الرئيس ترامب ليست حالةً فرديّة. بل هى انعكاسٌ للأزمات العميقة التى تعيشها معظم بلدان العالم، والتى يُشكِّل صعود الصين وتعدّد الأقطاب وكذلك أزمة انتشار وباء الكوفيد 19 أبرز معالمها. فها هى ذات الشعبويّة تبرُز جليّةً فى بلدانٍ مثل تركيا وفرنسا وغيرهما فى محاولةٍ للقفز فوق الأزمات وتوظيف استحقاقاتها، رغم اختلاف الصيغ بحسب البلدان. وما يدفع مواطنى البلدان المعنيّة إلى آفاقٍ بعيدة عن أيّة عقلانيّة.
فى جميع الأحوال، يبدو أنّ الأزمات الحاليّة المتراكمة تُعيد النظر بمعظم مسلّمات الحقبة الماضية وأبعد من ذلك بقيمها. إذ لا يُمكِن إنقاذ البلدان من تداعيّاتها الداخليّة بدون عودة دور الدولة كمؤسّسة تحمى المجتمع، بعيدا عن مقولات أنّ الأسواق تنظّم نفسها بنفسها. ولا يُمكِن خارجيّا حلّ الأزمات الدوليّة دون تفاوض عقلانيّ بين الدول، بعيدا عن المقولات المقدّسة حول التبادل التجارى الحرّ وما يقابلها من شيطنة الآخر. وهناك فرقٌ كبير فى هذا السياق بين عودة دور الدولة بشكلٍ فاعل وبين الهيمنة عليها شعبويّا دون محاسبة.
***
وبمعزلٍ عن شعبويّة و«فظاظة» أسلوب الرئيس ترامب، يُمكِن التساؤل إذا ما كانت إدارة أمريكيّة أخرى، أكثَر لطافةً، ستقف مكتوفة اليدين أمام واقع أنّها لم تعُد القطب الأوحد بعد انهيار الاتحاد السوفيتي؟ وأنّ نموّ الصين المتسارعِ وانخراطها فى المنظومة الاقتصاديّة العالميّة سيجعلها قريبا أقوى قوّة اقتصاديّة؟
كذلك يُمكِن التساؤل إذا ما كانت إدارة أمريكيّة أُخرى ستُعانى وستكون أكثر تخبّطا مع الانتشار العالميّ الكبير لجائحة فيروس الكوفيد 19 وصعوبات كشف سبل الحدّ منها أو معالجتها أو الوقاية منها؟ إنّ الدول الأوروبيّة الأكثر رعايةً تتخبّط هى أيضا وتواجه أغلبها نقمةً شعبيّة على سوء إدارتها وعلى إجراءات الحظر وتقييد الحريّات التى تفرضها.. وأحيانا دون جدوى. بالطبع يُمكن لوم الرئيس ترامب على تفريغ قانون الرعاية الصحيّة من محتواه، والذى كان الرئيس أوباما قد جهد لإصداره، فى بلدٍ تهيمن عليه مجموعات ضغط (لوبيّات) صحيّة وشركات إنتاج الأدوية. لكنّ الحقيقة أنّ الولايات المتحدة ليست فرنسا مثلا التى تلتزم من شمالها إلى جنوبها بما يُصدره قصر الإليزيه من أوامر، حتّى لو لم يقتنِع جميع المواطنين بحجج الإدارة.
من ناحيةٍ أخرى، تُلقى بعض الدول العربيّة ضمنيّا مسئوليّة سلب أموالها أو التطبيع مع إسرائيل على ضغوط إدارة الرئيس ترامب لمكاسب معنويّة قبيل الانتخابات. ولكن هل لم تكُن حقا تطبِّع سرّا قبل ذلك؟ هل لم يكُن لها علاقات تعاون أمنيّة واقتصاديّة؟ هل لم تكُن هذه الدول مُحرَجة فى التخلّى صراحةً عن مبادرة السلام «العربيّة» التى فرضتها هى على الدول والشعوب المعنيّة أكثر بالصراع العربي ــ الإسرائيليّ، وأوّلها الشعب الفلسطينيّ؟ وهل لم تكُن محرَجة للقيام بهذا التطبيع وتغضّ النظر عن أراضٍ ما زالت محتلّة لدولٍ تعتبرها شقيقة أو عن مستوطنات أُقيمت على أرضِ ما يُمكِن أن يكون أساسا لدولة فلسطينيّة؟ وهل لم تنتهِ ثورة السودان بهيمنة نخبة كانت هى التى فرضت العقوبات على بلدها لتستخدِم التطبيع وسيلةً للخروج منها؟
ولا يُمكن إلقاء مسئوليّة هذا كلّه على الرئيس ترامب اغتنَمَ الفرصة لتحقيق سياسات كان يُعمَل عليها بتأنٍّ من فترةٍ طويلة، سواءً من قبل الإدارات الأمريكيّة المتعاقبة أو من قبل نخب وإدارات الدول المعنيّة. فمقابل صلافة السيّد ترامب العلنيّة هناك أيضا صلافة السيدة هيلارى كلينتون السريّة التى يُمكِن تشكُّر السيّد ترامب على نشرها للملأ.
الأنكى من ذلك هو مسرحيّة انتظار نتائج الانتخابات الأمريكيّة لتشكيل حكومة «توافق وطنيى» فى لبنان لإخراجه من أزمته الاقتصاديّة والماليّة. ممّا يعنى توافقٌ بين زعماء الطوائف والحرب الذين صنعوا أصلا هذه الأزمة. هنا أيضا تلعب الشعبويّة دورا. كلّ يحفّز أفراد طائفته ضدّ الآخرين ويحملهم المسئوليّة. كلّهم يبعثون آمال المواطنين الذين ضاقت أحوالهم ــ وستضيق أكثر ــ بأنّ «المبادرة الفرنسيّة» ستنقذهم. ولكن لماذا الانتظار؟ هل لكون الإدارة الأمريكيّة الحالية لا تعيرهم اهتماما؟ هكذا يأتى مسئولٌ أمريكيّ ولا يُعير فى لقاءاته مع بعضهم ومع «ثوّار» لبنانيين أيّ اعتبارٍ لعلاقات دبلوماسيّة بين دولتين ذاتى سيادة. ألا تعرِف الإدارات الأمريكيّة المتعاقبة أنّ الهبات والقروض التى منحتها لبلدهم قد ذهبت هدرا وفسادا؟ أيأملون من إدارة جديدة اهتماما أكثر، خاصّة وأنّ أغلبهم له «لوبيّاته» فى واشنطن. أيأملون أنّ الولايات المتحدة ستساعد على ضخّ أموالٍ كبيرة لإنقاذهم دون شعبهم؟ ألهذا كلّه انفتح ملفّ ترسيم الحدود البحريّة الآن، دون التساؤل عمّا سيجعل الإسرائيليّون «يتنازلون» لهم عن واردات نفط وغاز دون مقابل؟!
واللافت والمُحزِن أكثر فى هذا السياق أنّ الحكومات المستبدّة تقرأ أكثر من غيرها أنّ دولة كالولايات المتحّدة لا تتعامَل ولا تُقيم سياساتها إلاّ بالاعتماد على الهيمنة والمصالح ومع الأطراف القادرة على الصمود حتّى ولو كان ذلك على حساب الشعوب.
***
نتائج الانتخابات الرئاسيّة الأمريكيّة غدَت على الأبواب. وربّما سيأتى رئيس جديد. ولكن تبقى التساؤلات عمّا إذا كانت الشعبويّة الرخيصة ستفقِدُ من زخمها، فى الولايات المتحدة كما فى غيرها من أنحاء العالم؟ وعمّا إذا كانت دولٌ ستتراجع عن خطوات سياسيّة «أجبرَتها» عليها إدارة ترامب؟ وعمّا إذا كانت تغييرات «إيجابيّة» ستحدُث فى الأزمات الدوليّة، من كوفيد 19 حتّى حروب القتل والدمار.. عندنا؟