قامُوس الظالمين
بسمة عبد العزيز
آخر تحديث:
الجمعة 1 نوفمبر 2024 - 6:35 م
بتوقيت القاهرة
تحوَّلت التفاصيلُ المُروعة لعملية قتل أم وأب على أيدى ابنيهما الشابَّين إلى فيلم وثائقي؛ قامت على إنتاجه إحدى القنواتِ الخاصةِ تحت عنوان «الوحوش». أفرغَ الأخوان رصاصَ سلاحيهما فى الأبوين، وباتت الجريمة باعترافِهما اللاحِق ثابتةً مُحقَّقة؛ لكن الظروفَ التى أدَّت إليها والتى دَفَعت بها المُحاميةُ المُترافِعة عنهما؛ جعلت هيئةَ المُحلّفين تتردَّد فى توقيع حُكم الإعدام. انقسمَ الأعضاءُ بين مَن رأى فى إعدامِهما ظلمًا مُحتمَلًا، ومن رأى فى الإبقاءِ على حياتِهما ظُلمًا أكبر لحقوقِ الوالدين المَغدورَين.
• • •
الظُّلم مَصدرٌ من الفعل ظَلَمَ ومَعناه فى قواميسِ اللغة العربيَّة جارَ وتعدَّى. المَظلومُ مَفعولٌ به والظالمُ فاعلٌ، وإذا قِيلَ ظلَّامٌ بتشديد اللام وفتحها؛ فصِيغةُ مُبالغة تُفيد كثرةَ ارتكابِ الظُّلم، أما الظَلوم فمُشتقٌّ آخر، يُشير إلى طابعٍ أصيلٍ وراسِخ فى الشَّخص مثل كَسول وخَجول.
• • •
ثمَّة مأثور يَصِف نومَ الظالِم بأنه «عبادة» والقَّصد راحةٌ للخَلق من غِيّه وشَرّه؛ فكأنه بالكَفّ الاضطرارىّ عن أفعاله المُتجبّرة أثناء غَفوِه، قد أدَّى عملًا صالحًا مُفيدًا يَرقى إلى حدّ التعَبُّد.
• • •
المَظلمَةُ هى الشَّكوى، والحِكمةُ الأثيرةُ التى كثيرًا ما ننطِق بها يأسًا من الاستجابةِ؛ تؤكد أن الشَّكوى لغيرِ الله مَذلَّة، خاصةً ما كان المَشكو إليه غير ذى مُروءةٍ وشَهامة، أو كان بطبعِه مُفتئتًا بغيًّا؛ مثلما هى الحال فى ظلّ عديد المَنظوماتِ الفاسِدة التى تَحيد عن سُبُل العدالة، ولا تعرفُ صَونَ الحقوقِ لأصحابها.
• • •
حين يشعر المَرءُ بالغُبنِ الشديد وعدم القدرة على درءِ ما وَقع عليه من ظُلم؛ يلوذ بما قد يُخفِف عنه وطأةَ مشاعرِه، وينحو إلى التمسُّك بفكرة الجزاء الأكيد الذى سيلحِقُ ولا شكَّ بظالمه؛ ولو بعد زَمنٍ مُمتد.
• • •
بعضُ المرات قد يدعو لسانُ حالِ المُحِب الناطقُ بالعَجز أمام مَحبوبه: لك يَوم يا ظالم؛ والدعوةُ قد تنبع من فَرطِ العَشَم دون أن تحملَ المعنى الحَرفيّ المَفهومَ والقاطعَ بأن الظُّلم لا يمكن أن يدومَ، وأن الأيامَ دُوَل؛ يذوقُ المرءُ فيها مِما اقترف. العبارة فى الوقت ذاته عنوانُ الفيلم الذى أخرجه صلاح أبوسيف عن نصّ لإميل زولا وسيناريو لنجيب محفوظ، وقدمت فيه دور البطولة فاتن حمامة بمشاركة مُحسِن سرحان ومَحمود المليجى.
• • •
الظُّلمُ من الظُّلمَات؛ يتسم هو الآخر بالعَتمة والقتامة. ما مِن ضَوء يبدّد وَحشتَه وما مِن ترياق يُداويه؛ إلا أن يجدَ من يتحدَّاه ويُقاومه ببأسٍ وعنادٍ لا يتزحزحان، ويُبدله نورًا وعدلًا وإنصافًا.
• • •
يَقول بيتُ الشعر القديم: وظلمُ ذُوى القُّربى أشدّ على.. النَّفسِ مِن وَقعِ الحُسامِ المُهنَّد، والمَعنى أن الإساءةَ التى تقع مِن شَخصٍ قَريب؛ لأقوى وأعظم أثرًا مما لو جاءت من آخرٍ بَعيد؛ لا صلات مُستقرة به ولا ثقة فيه. القريبُ يعلم وعلمُه مَبنيٌّ على مواقف عديدة راكمها الزمانُ، فإن تهدَّم البناءُ وتحوَّلت روابطُه المَتينة إلى حطام؛ لشقَّ على الروح وأوجَعها بما لا يُطاق؛ وفيما يجرى على أرضِ فلسطين أبلغ وأدلّ مثال؛ فجيرةٌ قد ظلمَت وبَغَت وأوجَعت، ووشائج دَمٍ قد استحالت فى خِفَّة المياه؛ وما عادت خليقة بحفظِ تاريخِها وجغرافيتها.
• • •
كثيرًا ما يَحسب الظالمُ أنه قويٌ قادر، لا يستطيع أحدٌ ردَّه عن أفعاله؛ فما أن يتآزر المظلومون فى مواجهته حتى يتقهقَر ويَظهر جبانًا ضعيفًا؛ والحقُّ أن الظُّلمَ يَستمد قوتَه من تخاذُل المَظلومين، واالرَّد عن ارتكاب المظالم واجبٌ، وفى الوقت ذاته عاصمٌ من التمادى، والحكمةُ الدارجةُ التى نلوكها فى أحاديثنا اليومية تقول: سكتنا له دَخل بحمارِه؛ فالتقاعس عن دَفع المُؤذى يَسمح له بمواصَلة أذاه، وبالإمعان فى تجاوزاته.
• • •
شَدَت أم كلثوم: يا ظالمنى، من ألحان رياض السُّنباطى وكلمات أحمد رامى، كما شدَت أيضًا ببَيت ابراهيم ناجي: ظالمُ الحُسن شَجيُّ الكِبرياء، من قصيدةِ الأطلال المُتربعة على عَرشِ القصائد المُغناة، والمَجازُ الذى جادت به قريحةُ ناجى فائقُ الرَّوعة مُتفردٌ فى أفقِ الخيال، بعيدٌ كلَّ البُعد عن الاستعاراتِ والكناياتِ والتشبيهاتِ التقليديَّة المألوفة؛ حتى ليندرَ أن نصادفَه اليوم فى أيّ عمل فنيّ، خاصة وقد تحوَّلت الفنون إلى مَحض مُكرَّرات ومُستنسَخات، لا طعم لها ولا رائحة.
• • •
يحتاج الظالمُ إلى أدواتٍ بعينها كى يُحقق أهدافَه، ويتمكَّن من تأسيسِ مَملكتِه وفَرضِ الطاعة فى أرجائها. حال نجاحه يصبح الخوفُ حاكمًا والبؤس غالبًا، ويُضيف الخاضِعون إلى السّياق التعسِ ما يُضاعِف من حَجمِ رَهبتهم وإذعانهم؛ فيُسهِمون عن سُوء تقدير فى تكريس واقعِ الظلم.
• • •
يقولُ الشاعر توفيق زياد: أنا ما هُنت فى وَطنى، ولا صَغَّرت أكتافى، وَقفت بوجه ظُلَّامى، يتيمًا عاريًا حافى، حَملت دَمى على كفّى، وما نكَّست أعلامي؛ إلى آخر الكلمات التى لحنها وغناها الشيخ إمام، والتى حملت نفيًا تلو آخر لعلاماتِ الذِلة وأفعالِ التخاذُل والتولّى، والحقُّ أن هذه الأنشودةَ قد تحوَّلت فى وقتنا الحالى إلى مَرثيَّة واقعيَّة مُعمَّمة؛ تنعى كثيرَ القِيم والمبادئ النبيلة التى هانت وصَغُرت وخَضَعت للتنكيس، وفتحَت بتواريها عن حيواتنا بابَ الظُّلم على مصراعيه، وبدَّلت بالعزَّة التدنّيَ وبالكبرياءِ الهَوان.