المستبد العادل

رباب المهدى
رباب المهدى

آخر تحديث: السبت 1 ديسمبر 2012 - 8:40 ص بتوقيت القاهرة

فكرة المستبد العادل لطالما ألهبت خيال الكثيرين، القائد الذى يجىء على حصانه الأبيض ليرفع الظلم عن المظلومين ويحقق العدل بسيفه الباتر دون الاعتماد على حاشية فاسدة أو انتظار لتحرك شعبه الضعيف. وفى سبيل ذلك ربما تسيل دماء وتهدر حريات البعض ولكن فى النهاية تحصل الأغلبية على حقوقها وتنهض الأمة لتنتصر على أعدائها فى الداخل والخارج. كانت هذه مصوغات حكم زعماء كثر على مر التاريخ جاءوا بدعم جزء من شعبهم آمن بهذه الفكرة تحت وطئة الظلم وتفشى الفساد. لم يكن هتلر فى ألمانيا أو ستالين فى روسيا أو حتى ــ ولو بدرجة أقل ــ جمال عبدالناصر فى مصر غير تجسيد لهذه الفكرة وهذا الحلم. ولكن ما علمتنا إياه دروس التاريخ أن المستبد لا يحقق العدل الدائم حتى وإن بدا ذلك، وأن مكتسبات «عدله» ما تلبث أن تضيع بعد فترة وجيزة وتغرق فى بحور دماء وكرامة مهدرة لمن قبل بهذا الاستبداد.

 

تذكرت هذه الدروس وأنا أشاهد البعض يدافع عن الإعلان الدستورى الذى أصدره الرئيس محمد مرسى الأسبوع الماضى بحجج ودعاوى شتى. فالبعض يتحدث عن أنها ديكتاتورية مؤقتة وآخرون يدفعون بأن الرئيس لم يكن أمامه بديل ليذود عن الإرادة الشعبية التى إنتخبته ضد «مؤامرات» المحكمة الدستورية التى تسعى لعزله أو أنه كان عليه اتخاذ مثل هذه التدابير الاستثنائية ليعيد حقوق الشهداء المهدرة ويحقق القصاص والعدل الغائب. وأخيرا، من يدفعون بأن البلد تحتاج إلى قبضة من حديد تعيد إليها الاستقرار فتدفع بعجلة الإنتاج قبل انهيار اقتصادى وشيك وتعيد الأمن والانضباط للشارع المصرى. كل هذه المبررات كانت الركيزة الأساسية التى بنى عليها الرئيس مرسى خطابه أمام أنصاره فى الاتحادية فركز على مؤامرة الـ٤،٣،٧،٥ أفراد وتحقيق الأسقرار وعودة الإنتاج ثم كرر كثيرا أنه «لن يظلم أحد». وفى هذا المشهد تناسى المبررين وأولهم الرئيس مرسى عدة حقائق.

 

●●●

 

أول هذه الحقائق الغائبة هى أن كثير من الديكتاتوريات أتت عن طريق صناديق الانتخاب أو على خلفية ثورات ولنا فى هتلر وموسولينى وستالين عبرة وبالتالى الاكتفاء بأن الرئيس منتخب أو أنه جاء فى إطار ثورة ليست فى حد ذاتها ضمانة ضد الاستبداد. ثانيا، أن كل الديكتاتوريات بما فيها الانقلابات العسكرية الفجة دفعت بأنها فترة مؤقتة حتى تستقر البلاد ولن أذهب بعيدا لأتى بأمثلة من بلاد أخرى ولكن لنتذكر أن فى مصر عام ١٩٥٢ وعد الضباط الأحرار بالعودة إلى ثكناتهم بعد وضع نظام جديد ثم ما لبثوا أن أسسوا لنظام سلطوى استقر معنا ٦٠ عاما. ثالثا، أن هذه الثورة قامت لتحفظ كرامة المصريين عن طريق قوانين ومؤسسات لا لتعيدهم تحت رحمة الحاكم «الأب» الذى يكفينا وعده أنه «لن يظلم أحد». رابعا، أن فى كل هذه اللحظات من تأسيس الديكتاتورية خرجت مظاهرات تدعم الاستبداد تحت دعاوى شتى حدث هذا مع ظهور الفاشية فى أوروبا ودعما للانقلابات العسكرية فى أمريكا اللاتينية وحتى فى مصر عام ١٩٥٤ حينما خرجت المظاهرات ترفض عودة الأحزاب والديمقراطية. وبالتالى خروج مثل هذه المظاهرات الداعمة لقرارات الرئيس سواء يوم خطابه الفائت أو بعدها ليس مبرر لقبولها. خامسا، تصور أن قرارات الرئيس سوف تعيد الاستقرار الغائب وتدفع «بعجلة الإنتاج» تصور ساذج حتى وإن سلمنا بأهمية هذه الأشياء. فسلطوية نظام مبارك بكل جبروتها لم تحم من قيام الإضرابات ثم حدوث الثورة وقرارات مرسى لم تتسبب فى غير زيادة الاحتقان وعودة الاعتصام إلى ميدان التحرير وهبوط مؤشر البورصة التى طالما صدعنا به عبدة الاستقرار والاستثمار. فالاستقرار ودوران عجلة الإنتاج بعد ثورة مرتبط بإقرار حقوق الناس وليس إنتزاع المزيد منها، فالأجور العادلة والأمن الذى يحفظ كرامة المواطن هو السبيل الأحترام الدولة وتحقيق الاستقرار وليس القرارات الديكتاتورية.

 

أخيرا، لو كانت هذه المعركة ــ كما يتصور أو يصور البعض ــ بين الثورة والقضاء الفاسد أو حول حقوق الشهداء لكان على الرئيس أن يصدر قانون استقلال السلطة القضائية ومشروع للعدالة الانتقالية وهيكلة الداخلية وهى كلها مشاريع جاهزة تطهر مؤسسات الدولة بشكل حقيقى ولا تؤسس لديكتاتورية جديدة. ولكن الرئيس اختار أن يصدر إعلانا دستوريا يمنع معارضته حتى على القوى الثورية ليس فقط عن طريق تحصين قرارته فلا يسئل عما يفعل ولكن أيضا بإضافة المادة السادسة من الإعلان وهى أشبه بالأحكام العرفية التى تسمح للرئيس بمصادرة الثورة كلية بدءامن حرية التعبير وليس انتهاءً بقدرة الناس على المطالبة بحقوقهم عبر تنظيم الاعتصامات أو المظاهرات. فالموضوع ليس تغول السلطة التنفيذية على السلطة القضائية والتشريعية ولكن تغول السلطة على الثورة ومصادرتها.

 

●●●

من هذا المنطلق فإن ما يحدث ليس صراعات «نخبوية» لا تخص «الجماهير» فالنظام السياسى الذى يتم تشكيله سيؤثر على الكل فلن يستطيع المواطن المهدرة كرامته فى قسم الشرطة أو المغبون حقه فى العمل المطالبة بحقوقه لأن الديكتاتورية لا تقف عند رأس النظام ولكن تمتد لتؤثر على شكل المجتمع الذى نعيش فيه ونمارس فيه حياتنا اليومية. فالشرطة المستبدة والفساد الاقتصادى الذى مازلنا نعانى منه لم يكن غير امتداد لسلطوية مبارك. تماما كما أن ما يحدث ليس استقطاب «إسلامى ــ علمانى» كما يريد البعض أن يصوره فمعارضة الإعلان الدستورى لا تعنى إسقاط الرئيس ولا هى تعبير عن «الإسلاموفوبيا» كما يسميها البعض (فمن ضمن من يعارض هذا الإعلان من دعم الرئيس فى وقت سابق وآخرون محسوبون على فصيل الإسلام السياسى)، ولكنه استقطاب بين الديمقراطية والديكتاتورية مثلما كانت الثورة استقطابا بين النظام القديم وفلوله والباحثين عن العدل والحرية من المصريين. أما ظهور بعض أقطاب النظام القديم ليصطادوا فى الماء العكر فلا يصح أن يكون مدعاة لقبول الديكتاتورية فنحن لم نخرج للميادين منذ الثورة لنختار بين أشكال مختلفة من الاستبداد ونظل قادرين على رفض عودة النظام القديم سواء عن طريق الفلول أو بتأسيس ديكتاتورية فى ثوب جديد وبوجوه جديدة.

 

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved