الهند والأوضاع الدولية
مصطفى كامل السيد
آخر تحديث:
الإثنين 1 ديسمبر 2014 - 10:25 ص
بتوقيت القاهرة
الخروج من أرض الوطن يتيح لك أن ترى أوضاعه من بعد وأن تقارن أحواله بأحوال أوطان أخرى. وإذا ما كانت رحلتك إلى بلد حقق إنجازات هائلة فى مجالات العلم والاقتصاد والسياسة، فلابد أنك ستتساءل عن أسباب تقدمه، ولماذا نجح ذلك الوطن وتخلفنا نحن. كانت رحلتى القصيرة الأسبوع الماضى إلى نيودلهى فى الهند، وقد شاءت لى ظروف عملى أن أتردد على الهند فى السنوات الأخيرة مرة على الأقل كل سنة، مما كان يتيح لى أن أقارن أحوالها عاما بعد عام، وأن ألمس تغييرا فى أوضاع مدنها ومواطنيها، وهو تغيير أكدته بعد الرؤية المباشرة تقارير كثيرة موثوق بها عن النقلة الهائلة التى أحرزتها الهند فى مجالات عديدة. وعلى الرغم من بقاء أكثر من مائتى مليون من مواطنيها تحت خط الفقر، ومن التفاوت الهائل فى الثروة والدخل بين أغنيائها وفقرائها، إلا أنه يبدو وفقا لهذه التقارير، وما لمسته خلال هذه الزيارات انخفاض عدد الفقراء ونسبتهم إلى إجمالى السكان، وانطلاق اقتصاد الهند مدفوعا بتقدم علمى هائل مكن الهند من أن تصبح قوة اقتصادية لا يستهان بها، وجعلها تتطلع إلى أن يكون لها مكانها اللائق بين الدول التى تقرر مصير العالم.
ولعل القارئ يجد تأييدا لما أقول عندما يعرف أن الهند أطلقت مركبة فضائية وصلت إلى سطح المريخ، وأنها وقد أحرزت السلاح النووى فهى أيضا حققت شبه اكتفاء ذاتى فى إنتاج الغذاء، كما أصبحت صناعتها للبرمجيات محل أنظار العالم، واستفادت من العولمة بأن أصبح أبناؤها هم الذين يتولون داخل بلادهم ضبط محاسبات البنوك والشركات الكبرى فى العالم ويقومون بالمساعدة فى إتمام حجز مقاعد الطائرات.
•••
السفر للخارج يتيح لك أيضا أن تتنسم هواء المناقشات الفكرية العميقة التى لا تحدها قيود ترسم قواعد لما يمكن الحوار حوله، أو تطرح مسلمات لا يمكن التشكيك فيها حتى ولو كانت لا تستند إلى دليل أو منطق. وقد أسعدنى الحظ أنى سافرت إلى الهند مع نبيل فهمى وزير خارجية مصر السابق والذى عاد إلى منصبه قبل مقعد الوزارة عميدا لكلية الشئون العالمية والسياسات العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، وزميلين آخرين من هيئة التدريس بتك الكلية. وأخذتنا رحلتنا القصيرة إلى مؤسسة مراقبى الأبحاث، وهى مؤسسة مهتمة بقضايا السياسة العالمية ووثيقة الاتصال بكل من وزارتى الخارجية والدفاع فى الهند، ولذلك كان محاورونا من الهنود من السفراء والعسكريين الهنود الذين تولوا مناصب رفيعة وكان من بينهم عدد من سفراء الهند السابقين فى مصر. وقد كان يكفى دخولك إلى مقر هذه المؤسسة ذات الطوابق الثلاث، وأن تعرف مكانة المتحدثين وصلاتهم الوثيقة بالحكومة الهندية لكى تدرك أولا حجم الموارد التى تتيحها الهند لمراكز الفكر هذه، وأن ما يدور فيها ليس منقطع الصلة بمطبخ صنع السياسات فى الحكومة الهندية وذلك بالمقارنة بفقر الإمكانيات فى مراكز الفكر فى مصر وضعف صلتها بأجهزة صنع القرار.
وقد احتلت طبيعة الأوضاع العالمية الجديدة جانبا مهما من النقاش، وأشار المتحدثون إلى الطبيعة الانتقالية لهذه الأوضاع والتى تتسم أولا بسقوط القواعد التى كان يبدو أنها مستقرة فى العلاقات بين الدول. ويعكس سلوك كل من روسيا والصين تحديا لهذه القواعد. ها هى روسيا تفعل ما تشاء فى أوكرانيا. تنتهك سيادة هذه الدولة، وترسم حدودها أو هى بسبيلها إلى عمل ذلك، وتهدد باجتياحها إن تجرأت حكومتها على التقدم بطلب الانضمام إلى حلف الأطلنطى، ولا تجد دول ذلك الحلف ما تفعله سوى أن تصرخ منددة بالسلوك الروسى، وتفرض عقوبات لا تردع روسيا عن المضى فى خروجها على القواعد التى كانت هذه الدول تفترض أنها استقرت فى المجتمع الدولى. ومع أن نفس هذه الدول التى تحتج على روسيا قد فعلت نفس الأمر فى العراق وأفغانستان، إلا أنها كانت تتصور أن ما يجرى فى آسيا إفريقيا وأمريكا اللاتينية يجب ألا يمارس فى أوروبا. وتفعل الصين نفس الأمر فيما يحيطها من بحار، لا تأبه بما تصرخ به فيتنام والفليبين من أن السفن الصينية تصطاد فى المنطقة الإقتصادية الخالصة لكل منهما وفقا لقواعد معاهدة قانون البحار، وتصرح الحكومة الصينية بأنها لا تبالى بقواعد تلك المعاهدة. بل وتسعى الصين ومعها روسيا والهند والبرازيل وجنوب إفريقيا إلى إقامة مصرف عالمى يتيح التمويل لمشروعات البنية الأساسية للدول النامية خلافا للقواعد التى ترسمها مؤسسات بريتون وودز. ومما يمكن الدول النامية أن تخرج على قيود الليبرالية الاقتصادية التى يدافع عنها البنك والصندوق الدوليان، ومعهما منظمة التجارة العالمية.
•••
خلفية سقوط هذه القواعد المستقرة فى القانون والاقتصاد الدوليين هى بلا شك تدهور مكانة الولايات المتحدة فى النظام العالمى وصعود قوى جديدة تتحدى الهيمنة الآفلة للعملاق الأمريكى. مكانة الولايات المتحدة كأكبر اقتصاد فى العالم تتآكل أمام زحف الاقتصاد الصينى ليخلفها، والعجز المزدوج لكل من النظام السياسى والميزانية الاتحادية يسقط الولايات المتحدة كنموذج يحتذى، ويتضاعف اليقين بتدهور مكانة الولايات المتحدة فى النظام العالمى بفشلها فى التعامل مع قضايا دولية، فلا هى تدافع عن استقلال أوكرانيا، ولا هى تنجح فى هزيمة التنظيمات الإرهابية فى أفغانستان والعراق وسوريا، ولا هى توجت الدبلوماسية المكوكية لوزير خارجيتها بأى تقدم ملموس فى حل الصراع الفلسطينى الإسرائيلى. هى تبدو فى صورة عملاق بلغ به الوهن منتهاه ولكن لا يتوقف عن إطلاق تهديدات ووعود لا يستطيع الوفاء بها. وفى المقابل تتصاعد قوة الصين علميا واقتصاديا وسياسيا، هى تشارك فى سباق الفضاء، وتحتل جامعاتها مراكز متقدمة فى أى سجل موثوق به عن أفضل الجامعات فى العالم، ويجوب أسطولها محيطات العالم، ويشترك فى إجلاء المواطنين الصينيين من ليبيا وعلى ضفاف البحر الأبيض المتوسط فى استعراض للقوة لا تخفى دلالاته عن أى مراقب رصين، كما تلقى بثقلها فى تؤدة فى بحث القضايا الآسيوية. وتحسب الهند لصعود الصين على المسرح الدولى كل حساب، ولكنها لا تبادر الصين بالعداء وإنما تسعى للاشتباك معها من خلال تكثيف التعاون الاقتصادى، مع حرصها فى نفس الوقت على ضمان الدفاع عن حدودها فى مواجهة أى تحرشات صينية.
•••
وتضرب الهند بتعاملها المزدوج مع الصين مثلا للتعقيدات الجديدة فى السياسة العالمية. تتعدد المواقف التى يصعب فيها على بعض الدول أن تتعامل مع دول أخرى تشتبك معها فى علاقات متنوعة باعتبارها حليفا كاملا تتعاون معه فى كل المجالات، أو صديقا لا تحذر من احتمال خيانته للصداقة. وهكذا يمكن لدولة أن تكون حليفا لدولة أخرى فى مواقف معينة، وهى خصم لها فى مواقف أخرى. لا تستطيع الولايات المتحدة تجاهل أن إيران يمكن أن تكون حليفا لها فى الحرب على الجماعات الإرهابية فى أفغانستان والعراق وداعش والقاعدة فى سوريا، ولكنها خصم للولايات المتحدة بتحالفها مع النظام السورى وحزب الله وبمطامحها النووية. والنظام السورى بدوره خصم للولايات المتحدة بالحرب التى يشنها على شعبه وبتحالفه مع حزب الله، ولكنه يقف مع الولايات المتحدة فى نفس المعسكر فى مواجهة داعش وتنظيم القاعدة. والولايات المتحدة تختلف مع النظام المصرى فى موقفه من حقوق الإنسان، ولكنها تتعاون معه فى الحرب ضد الإرهاب فى سيناء وتحرص على الامتيازات التى يقدمها لها فى عبور طيرانها الحربى أجواء مصر وعبور سفن أسطولها قناة السويس. هذا هو النمط الجديد للعلاقات الدولية فى النظام العالمى الآخذ فى التشكل والذى لم يستقر بعد على قواعد التعامل بين وحداته.
وعندما يأتى الحديث عن العلاقات المصرية الهندية فى هذا الحوار لا يخفى المشاركون الهنود خشيتهم من انكماش مساحة التعبير عن الحق المشروع فى الاختلاف فى مصر، ويتشككون أن يكون سلاح القمع والإقصاء هو الطريق للوصول إلى الاستقرار السياسى، ولا يخفون عمق الروابط التى أصبحت تجمع بلدهم وإسرائيل فى مجالات التكنولوجيا المتقدمة والوجود البارز لإسرائيل فى أدوات إعلامهم فى مقابل الغياب العربى، ومع أنهم يعبرون عن اعتزازهم بالصلات الوثيقة التى كانت تجمع الهند ومصر فى ظل زعامتى نهرو وعبدالناصر فإنهم لا يرون من آفاق لعلاقات قوية بين البلدين إلا فى المجال الاقتصادى والذى لا يخلو من العقبات.
انتهى من زمن بعيد وقت المحور المصرى الهندى فى العلاقات الدولية، ولم يعد لسياسة عدم الانحياز أى معنى فى هذا الوضع الدولى الجديد. إذا كانت مصر تريد استعادة مكانة لها على المسرح العالمى فالطريق إلى هذه المكانة يمر بمحطات الديمقراطية والتقدم العلمى والنقلة الاقتصادية.