كيف تعيد الوساطة المصرية والقطرية السياسة والدبلوماسية إلى الصراع بين فلسطين وإسرائيل؟
عمرو حمزاوي
آخر تحديث:
الجمعة 1 ديسمبر 2023 - 7:30 م
بتوقيت القاهرة
يقرب نجاح الوساطة المصرية ــ القطرية فى مد الهدنة المؤقتة بين إسرائيل وحماس الأوضاع فى قطاع غزة من نقطة عملياتية وسياسية قد تمكن الطرفان المتحاربان من إعادة النظر فى الأهداف المعلنة والأدوات المستخدمة منذ ٧ أكتوبر ٢٠٢٣. فبينما تتوقف العمليات العسكرية ويستمر دخول المساعدات الإنسانية إلى القطاع ويتواصل الإفراج المتبادل عن الرهائن الإسرائيليين والأسرى الفلسطينيين، تأتى إشارات متزايدة من الحياة السياسية والرأى العام فى إسرائيل ومن مفاوضى حماس فى الخارج وقيادات الحركة فى الداخل تدلل على استعداد للتفكير فى سيناريوهات مختلفة للفترة القادمة.
فحكومة الحرب فى تل أبيب قبلت الهدنة المؤقتة، بداية، لكى تعيد بعض الرهائن إلى ديارهم وتحد بالتبعية من ضغوط أسرهم ومن مطالبة قطاعات واسعة فى الرأى العام الإسرائيلى باعتبار «عودة الرهائن» هى الأولوية العسكرية والسياسية الأولى للمواجهة مع حماس. أراد رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، ومعه وزراء اليمين المتطرف الذين يمثلون الأحزاب الدينية وأحزاب المستوطنين المشاركة فى الحكومة، احتواء الضغوط الداخلية بقبول هدنة مؤقتة لبضعة أيام تعيد بعض الرهائن نظير الإفراج عن أسرى فلسطينيين من الأطفال والنساء وإيقاف هجماتها المدمرة على غزة ثم العودة بعد ذلك إلى الحرب وتطوير نطاقها من الشمال والوسط إلى الجنوب. كانت هذه هى حسابات المصلحة التى تحرك وفقا لها نتنياهو، وأقنع بها قيادات الجيش والمؤسسات الأمنية، وأرسل على أساسها مفاوضيه إلى القاهرة والدوحة. غير أن رئيس الوزراء الذى يخشى على مستقبله السياسى ويتخوف من إطاحة حزبه، حزب الليكود، به ككبش فداء بعد الإخفاق الأمنى والحكومى فى ٧ أكتوبر ٢٠٢٣، بحث من خلال قبول الهدنة المؤقتة عن تحقيق مجموعة إضافية من الأهداف الداخلية والخارجية.
• • •
من جهة، لم يأتِ قبول الهدنة والصفقة التبادلية بين الرهائن والأسرى فقط لتهدئة خواطر أسر الرهائن، بل جاء أيضا للسيطرة على الصراع الداخلى فى أروقة حكومة الحرب بين جناح نتنياهو واليمين المتطرف وجناح الوزير بينى جانتس والوزراء المنتمين لليمين بشأن أهداف واستراتيجيات الحرب على غزة وكلفة استخدام الأدوات العسكرية. فبينما يتمسك نتنياهو والمتحالفون معه بالهدف غير الواقعى المعلن والمتعلق بتدمير حماس عسكريا وتنظيميا وإداريا ويريدون تطوير العمليات العسكرية باتجاه جنوب غزة والتأسيس لوجود أمنى فى القطاع لمرحلة انتقالية لا يتحدثون عن سقفها الزمنى، يريد جانتس والقريبون منه وضع سقف زمنى نهائى للحرب وتحديد أهداف واقعية إما قابلة للتحقيق كاستعادة العدد الأكبر من الرهائن أو تحققت بالفعل (كفرض مناطق معزولة فى شمال وشرق القطاع) والتفكير فى بدائل لطرح الوجود الأمنى فى غزة (من قوات أممية إلى عودة السلطة الفلسطينية).
من جهة أخرى، توافقت حكومة الحرب بجناحيها على ضرورة الامتناع عن إغضاب إدارة الرئيس الأمريكى جو بايدن إن تواصلت العمليات العسكرية دون هدنة مؤقتة تسمح بإدخال المساعدات الإنسانية إلى غزة وتوقف، وإن لأيام محدودة، المشاهد المروعة للقتل والدماء والدمار القادمة من هناك والتى رفعت من معدلات الضغوط الداخلية على الإدارة، إن من داخل بعض المؤسسات التنفيذية (وزارة الخارجية ووكالة التنمية والبيت الأبيض، بل والمخابرات المركزية) أو من داخل المجتمع الأمريكى الذى باتت قطاعاته السكانية ذات الأصول العربية والإسلامية تشعر بخيانة الرئيس الديمقراطى لمقولات حماية حقوق الإنسان ورفض الاحتلال والعدوان حين يتعلق الأمر بالشعب الفلسطينى. دفعت تلك الضغوط المزدوجة إدارة بايدن، وفى ظل رفضها العمل على وقف شامل لإطلاق النار، للسعى الجاد بعد مرور ما يقرب من شهر على القتل اليومى للفلسطينيين، ليس فقط فى غزة بل أيضا فى الضفة الغربية، إلى التوصل لهدنة مؤقتة ونقل الأوضاع على الأرض من عمليات عسكرية ودماء ودمار على نحو يومى إلى تبادل رهائن وأسرى ومساعدات إنسانية وإمدادات وقود وعلاج للجرحى.
أخيرا، ولأن العدد الهائل من الضحايا الفلسطينيين، ومن بينهم أرقام مفزعة للضحايا من الأطفال والنساء، ومعه التهجير القسرى لما يقرب من ٨٠ بالمائة من أهل غزة من الشمال والوسط إلى الجنوب وفقا لبيانات الأمم المتحدة والتدمير الممنهج للمرافق العامة كالمدارس والمستشفيات بما فيها تلك التابعة للهيئات الأممية والحصار المطبق على القطاع من جهة إسرائيل، لأن كافة هذه الفظائع أفقدت الدولة العبرية التعاطف العالمى الذى كان لها فى أعقاب هجمات حماس على المدنيين الإسرائيليين واختطاف الرهائن ورتبت تعالى أصوات وازنة تطالب بالتحقيق فى شبهات ارتكابها لجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وربما جرائم إبادة، فإن حكومة الحرب بجناحيها اليمينى المتطرف واليمينى رأت فى الهدنة المؤقتة فرصة لاحتواء بعض ضغوط الرأى العام العالمى والترويج بكثافة لمقولات خائبة لتبرير سقوط كل هذا العدد الهائل من الضحايا الفلسطينيين بإلصاق تهم الاحتماء من وراء المدنيين واستخدام المستشفيات والمدارس عسكريا بحركة حماس. أسجل هنا كون هذه المقولات خائبة لأن أغلبيات كاسحة فى الإقليم والعالم صارت تدرك تهافتها وعدم كفايتها لتبرير القتل على المشاع الذى تمارسه إسرائيل فى ٢٠٢٣ فى غزة. ومع ذلك، فإن حكومة الحرب، وعلى لسان متحدثيها، والجيش الإسرائيلى، وعلى لسان الناطقين باسمه، لا يكفان عن توظيفها.
• • •
كانت هذه هى أهداف الحكومة الإسرائيلية من قبول الهدنة المؤقتة، وهى بكل تأكيد لم تزل قائمة مع التمديد الذى تكرر مرتين لأيامها بوساطة مصرية ــ قطرية، مثلما لم تزل الخلافات داخل الحكومة بشأن سيناريوهات الحرب حاضرة وبقوة. غير أن التغيير الحيوى الذى أحدثته الهدنة داخل عموم الحياة السياسية والنقاش الإعلامى والرأى العام فى الدولة العبرية يتمثل فى فتح أبواب التفكير فى سيناريو للأيام القادمة لا يتضمن تجدد العمليات العسكرية والبحث عن سبل إدارة الصراع مع حماس وبمساعدة إقليمية لها أن يتواصل تقديم القاهرة والدوحة لها وبمساعدة دولية تأتى من الولايات المتحدة الأمريكية ومن الأوروبيين دون المزيد من التورط فى القتل والدماء والدمار وشبهات جرائم الحرب. تحديدا هذا التغيير داخل إسرائيل، فى أروقة السياسة (أحزاب يمين الوسط) وفى وسائل الإعلام (الصحف اليسارية وصحف الوسط) وفى الرأى العام (القطاعات المؤثرة، والتى تقترب من ربع مواطنى إسرائيل وفقا لاستطلاعات رأى عام أجريت مؤخرا، وهى تحدد عودة الرهائن كالهدف الرئيسى وتتشكك فى واقعية تدمير حماس وفى ضرورات مواصلة حرب بلا نهاية معلومة).
• • •
أما فيما خص حركة حماس والفصائل الأصغر المتحالفة معها كالجهاد الإسلامى والجبهة الشعبية، فإن قبول الوساطة المصرية ــ القطرية التى أنتجت الهدنة المؤقتة ومدت مداها الزمنى مرتين حتى الآن ارتبط أيضا بتحقيق أهداف محددة وحيوية.
من جهة، أحدثت أيام الحرب الطويلة وهجمات إسرائيل المنفلتة من كل حد إنسانى توافقت عليه البشرية المعاصرة (الامتناع عن إلقاء القنابل التى تزن آلاف الأطنان على مناطق مأهولة بالسكان) ومن كل حد قانونى وثقته قواعد القانون الدولى العام وقوانين الحروب (تجريم التهجير القسرى وتجويع السكان وتجريم استهداف المنشآت المدنية الحيوية خاصة المدارس والمستشفيات) قتلا ودمارا وتشريدا واسعا فى غزة وكارثة إنسانية مكتملة الأركان، ومن ثم بحثت حركة حماس عن انتزاع وقف مؤقت للعمليات العسكرية وتسريع لوتائر دخول المساعدات الإنسانية إلى القطاع للحد جزئيا من معاناة الناس وتمكينهم من استعادة شىء من الأمن المفقود منذ ٧ أكتوبر ٢٠٢٣ ــ ولا أقول استعادة شىء من اعتيادية الحياة، فغزة المحاصرة لم يكن بها ما هو اعتيادى. بحثت حماس والفصائل الفلسطينية، إذا، عن هدنة تأتى لأهل غزة باستراحة مطلوبة وبالتقاط للأنفاس يساعدهم على دفن موتاهم ومعالجة جرحاهم وإطعام أولادهم وتهدئة وجبر خواطرهم التى روعتها حرب لم يختاروها ولم يحددوا توقيتها ولم يعلموا مداها قبل أن تفجرها حماس وإسرائيل وصمدوا فى وجه وقائعها الدموية كعادتهم منذ عقود طويلة.
من جهة ثانية، قبلت حماس شروط الهدنة المؤقتة ووافقت على الإفراج عن بعض الرهائن الإسرائيليين لكى تتمكن من الإفراج التبادلى عن بعض الأسرى الفلسطينيين فى سجون الاحتلال وإعادتهم إلى ديارهم، خاصة فى الضفة الغربية. وحماس بذلك، وهى تدرك الأهمية الوطنية البالغة لتحرير الأسرى، تقدم للشعب الفلسطينى فى غزة المعاناة الإنسانية الشاملة وفى الضفة التى تصاعد بها على نحو مفزع عنف المستوطنين وفى القدس الشرقية الغائبة عن يوميات حياتها، نتيجة إيجابية قد تقلل من غضب الناس من وحشية الحرب وقد تستميل بعضهم (خاصة فى الضفة) إلى تأييد مخاطرة حماس فى ٧ أكتوبر ٢٠٢٣ باعتبار أنها، وإن رتبت حرب إسرائيل الوحشية ومشاهد القتل والدماء والدمار المفزعة، تحقق أهدافا وطنية كالإفراج عن الأسرى.
من جهة ثالثة، وافقت حماس والفصائل الفلسطينية الأخرى على الهدنة لكى تلتقط هى أنفاسها عسكريا وتنظيميا بعد أيام الحرب الطويلة، ولكى تنفتح، وهو تواجه الآن قرارا معلنا لحكومة إسرائيل بتدميرها، على الدبلوماسية الإقليمية التى لها عنوان ثابت هو مصر لحسابات الموقع والتاريخ والدور الكبير الحامى والضامن للقضية الفلسطينية وصار لها عنوان إضافى هو قطر باستضافتها للقيادة السياسية للحركة ودعمها ماليا لإدارتها للقطاع منذ سنوات. حماس، هنا وبالتعاون مع الوسيط المصرى والقطرى، تبحث لنفسها عن التقاط الأنفاس وربما إعادة التمركز عسكريا وتنظيميا وتشرع فى موضعة نفسها والمتحالفين معها فيما خص أوضاع غزة وكل الأراضى الفلسطينية المحتلة بعد الحرب. لن تقبل حماس بإلغاء دورها، إلا أن تغيير مرتكزات وسياقات دورها يبدو بحسابات إلى اليوم فى فلسطين وإسرائيل وإقليميا وعالميا قادما لا محالة.
• • •
غير أن حماس، شأنها فى ذلك شأن حكومة إسرائيل، تطور مواقفها وأيام الهدنة فى طور التمديد بتفضيلها لهدنة طويلة الأجل وبانفتاحها، وعبر الوسيطين المصرى والقطرى، على توافقات جديدة مع إسرائيل قد يكون من بينها الإفراج عن بعض الرهائن من الرجال والعسكريين وزيادة أعداد الأسرى الفلسطينيين المحررين وحجم المساعدات الإنسانية للقطاع. تبدو حماس أيضا، وفى سياق سعيها لتأمين دورها فى المرحلة القادمة بشقيها الانتقالى فى غزة وربما الشق متوسط وطويل المدى المتعلق بترتيبات تسوية سلمية ممكنة للقضية الفلسطينية، منفتحة، وهنا عبر الوسيط المصرى فى الأساس، على حوار يتجدد مع السلطة فى رام الله وحركات وفصائل فلسطين الوطنية الأخرى بغية التوافق حول رؤية جامعة لإدارة حاضر ومستقبل شعب يسعى للانعتاق من ظلم تاريخى ولممارسة حقه المشروع فى تقرير المصير.
أعادت الهدنة المؤقتة السياسة والدبلوماسية والتفاوض إلى واجهة فعل الطرفين المتحاربين، إسرائيل وحماس. وأبعدت، من ثم وإلى حد ما وليس على نحو كامل وشامل ودون أن نتوقع اختفاء كل الخروقات، شبح العودة إلى حرب الأيام الخمسين الطويلة ووقائعها الوحشية. فلتواصل مصر ولتواصل قطر جهود الوساطة والسعى إلى إطالة أمد الهدنة، فهذا هو أفضل المراد اليوم لغزة وأهلها ولعموم فلسطين التى عادت قضيتها ودولتها المستقلة إلى الواجهة الإقليمية والدولية ولن تغيب.