خريف أحزان لبنان

من الفضاء الإلكتروني «مدونات»
من الفضاء الإلكتروني «مدونات»

آخر تحديث: الأحد 1 ديسمبر 2024 - 6:20 م بتوقيت القاهرة



فى ظلّ سرَيان وقف إطلاق النار فى لبنان، أشار كثرٌ إلى أوجه القصور المُحتمَلة فيه. هو يتضمّن الكثير من البنود الملغومة لا شكّ، لكن ثمّة أيضًا حقيقةٌ لا يمكن تجاهلها. فشروط اتفاق وقف إطلاق النار وضعت حزب الله فعليًا فى موقف ليس بعيدًا من الاستسلام، لكن الحزب وإيران قبِلا به، وأظهرا إلى حدٍّ ما استعدادًا للعيش مع تداعياته. وفى هذا الأمر دلالة مهمّة.
تمثّلت المسألة الخلافية الأساسية فى مطلب إسرائيل السماح لجيشها بالتدخّل العسكرى داخل لبنان فى حال حدوث أى خروقات لاتفاق وقف إطلاق النار من جانب حزب الله. وتفاجأ اللبنانيون بوثيقة جانبية تضمَن بموجبها الولايات المتحدة حريّة التحرّك العسكرى الإسرائيلى، بصرف النظر عمّا يفضّله لبنان أو حزب الله أو إيران. وحين أوصى الفرنسيون، بحسب ما أُفيد، اللبنانيين برفض هذا التقويض الوقح لسيادتهم، أوضح وزير الخارجية الأمريكى أنتونى بلينكن للرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون أن الموقف الفرنسى يعرّض اتفاق وقف إطلاق النار للخطر.
أما الشخص الذى فهم ما كان يدور فهو رئيس مجلس النوّاب اللبنانى نبيه برى. يستطيع المرء قول الكثير عن برى، ولكن لا يمكن وصفه بأنه أحمق. لا بدّ من أنه أدرك سريعًا أن التدمير المُمنهَج للطائفة الشيعية يهدّد بقاءه السياسى. لذا، خاض مجازفةً فى مطلع أكتوبر، إلى جانب رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتى والزعيم الدرزى وليد جنبلاط، من خلال دعم إبرام اتفاق لوقف إطلاق النار والالتزام بتطبيق قرار مجلس الأمن رقم 1701، وإرسال الجيش اللبنانى إلى منطقة جنوب الليطانى. وفى أعقاب الإعلان عن هذا الموقف، استقبل برى وزير الخارجية الإيرانى عباس عراقتشى، الذى أفادت تقارير بأنه لم يكن راضيًا عن موافقة رئيس مجلس النواب على القرار رقم 1701. ودفع هذا الأمر جنبلاط بعد أيام قليلة إلى التعبير عن امتعاضه بالقول، «أراد البعض من الزائرين أن يعلّمنا كيف نصمد، يعنى يسمح لى هذا البعض نعلّم معلّمَه كيف نصمد، وهذا تاريخنا منذ (زمن) بعيد».
يشير ذلك إلى أن برى حاول منذ البداية التوصّل إلى اتّفاق مع مبعوث الرئيس الأمريكى الخاص آموس هوكستين، مهما كان الثمن. وحين تبيّن له أن الأمريكيين والإسرائيليين قد توصّلوا إلى تفاهم جانبى، أضاف إلى اتفاق وقف إطلاق النار بندًا يقبل على نحو جوهرى بما كان الاتفاق الجانبى يسعى إلى فرضه. فقد اقترح برى أن تضمَن خطة وقف إطلاق النار للجانبَين الحق فى الدفاع عن النفس، ويعتبر الإسرائيليون أساسًا أن حريّة تصرّفهم فى لبنان تصبّ فى هذا الإطار. لكن، ماذا استفاد اللبنانيون من ذلك؟ أولًا، حفظوا ماء الوجه، وسمحوا لبرى بتخفيف حدّة الاتّهامات بأن مقترح وقف إطلاق النار يشكّل انتهاكًا للسيادة اللبنانية. وثانيًا، نجح برى فى منح حزب الله الحقّ المُحتمَل فى الردّ على الهجمات الإسرائيلية ضمن بند الدفاع عن النفس.
• • •
بصرف النظر عن هذه التفاصيل، لا بد من التساؤل لماذا وافق حزب الله وإيران على اقتراح هوكستين الذى لم يصبّ فى صالحهما؟ كان الحزب حتى عشية الإعلان عن وقف إطلاق النار يواجه وضعًا صعبًا على نحو متزايد، وحاول حجب ذلك من خلال إطلاق أكثر من 200 صاروخ على إسرائيل فى 24 نوفمبر الماضي. فقد كان حزب الله على وشك خسارة بلدة الخيام الواقعة فى القطاع الشرقى من جنوب لبنان، إذ أُفيد بأن القوات الإسرائيلية وصلت إلى نهر الليطانى، وكان يخوض اشتباكات عنيفة مع الإسرائيليين فى بلدة البياضة فى القطاع الغربى، ما كان ليفتح الطريق أمامهم على الأرجح للوصول إلى مدينة صور.
ستسود حالة من اللايقين حيال الكثير من الأمور فى المرحلة المقبلة. من المرجّح أن يرفض حزب الله نزع سلاحه، وما من مؤشرات على أن إيران ستُرغمه على ذلك. وحتى قول الشيخ نعيم قاسم فى الكلمة التى ألقاها الأسبوع الفائت إن خطوات الحزب ستكون «تحت سقف الطائف» لا يِعِدُ بشىء مُحدَّد. ليس بمقدور الحزب فعل الكثير ضدّ إسرائيل فى المستقبل المنظور، على الأقل من دون أن يستدعى ذلك ردٌّ إسرائيلى ضخم، لكن الجهود التى سيبذلها خلال السنوات المقبلة ستصبّ على أى حال فى مجالٍ آخر. فستكون أولوية الحزب إعادة إحياء طائفته، وإعادة إعمار المناطق الشيعية المُدمَّرة، وبلورة علاقة مقبولة مع الدولة اللبنانية والطوائف الأخرى، فى ظلّ الحفاظ على أكبر قدر ممكن من قوّته.
وعلى نحو أهمّ، يقف حزب الله راهنًا فى مواجهة مجتمع لبنانى أقلّ استعدادًا من أى وقت مضى للقبول بهيمنته. فقد تدهورت علاقة الحزب بمختلف طوائف البلاد على مدى السنوات الخمس الماضية، وبالتالى، قد يؤدّى هذا الخلاف الداخلى إلى مفاقمة حالة الجمود والتوتّر، أو إلى إطلاق شكل من أشكال الحوار مع الحزب حول شتّى المسائل، بدءًا من تسليم سلاحه، ووصولًا إلى تنفيذ ذلك مقابل الحصول على حصة أكبر من السلطة السياسية فى الدولة. لكن يبدو أن المعادلة التى فرضها حزب الله على الحكومات المتعاقبة والقائمة على ثلاثية «الجيش والشعب والمقاومة» قد سقطت. وغالب الظن أن يرفض الكثير من السياسيين غير الشيعة من الآن فصاعدًا إدراج المقاومة فى هذه المعادلة.
تشكّل جهود حزب الله لتصوير هذه الكارثة التى ألمّت بطائفته على أنها انتصارٌ مؤشّرًا على ما ستشهده المرحلة المقبلة. فالحزب، إن استطاع، لن يتنازل عن أى من مكتسباته، لكن هذا سيعنى تجاهل السياق الذى بات واقعًا فيه. من المتوقّع أن ينفّذ الجيش اللبنانى على نطاق واسع التفويض الممنوح له، بعد أن أصبح يتمتّع بغطاء شعبى وسياسى لأداء هذه المهمّة. إذا حاول حزب الله العودة إلى وضعه السابق، أى قبل أكتوبر 2023، فسيُضطرّ إلى خوض مواجهةٍ مع الدولة اللبنانية والجيش ومعظم الأحزاب السياسية فى البلاد، ما سيزيد من عزلته. وفيما تترصّد إسرائيل الأجواء بانتظار التحرّك عسكريًا ضدّ أى مسعًى يبذله لإعادة أسلحته الثقيلة إلى الجنوب، قد يتورّط الحزب مجدّدًا فى وحول حربٍ جديدة يقف فيها وحيدًا ضدّ الجميع. قد يقدّم هذا السيناريو مادّة جيّدة للقصص البطولية، لكنه أيضًا مسارٌ سيزيد الطائفةَ ضعفًا وإنهاكًا.
• • •
المسألة الأساسية هى ما ستقرّره إيران. يشير أحد التحليلات إلى أنها ستسعى لاسترجاع مكانة حزب الله السابقة، لكن السؤال الأكثر واقعيةً هو، ماذا سيكون الغرض من ذلك؟ لقد شكّلت استراتيجية «وحدة الساحات» المزعومة فشلًا ذريعًا، إذ شهدت فى أعقابها طهران تحييدَ أقوى حليفَين لها فى القتال ضدّ إسرائيل، ربما لعقودٍ من الزمن. وأى عمليةٍ لإعادة الاستثمار فى بناء قدرات حزب الله ستتطلّب أولًا إعادة إعمار واستعادة ما خسره المجتمع الشيعى، ما قد يكلّف ملياراتٍ من الدولارات التى لا يستطيع الاقتصاد الإيرانى العَليل تأمينها، لا سيما إذا فرضت إدارة ترامب عقوبات جديدة.
بتعبير آخر، ستتكبّد إيران نفقات كبيرة وتضحياتٍ جسيمة من أجل إعادة إحياء استراتيجية فاشلة. يتزامن ذلك مع استعداد القيادة الإيرانية للانتقال إلى مرحلة ما بعد المرشد الأعلى آية الله على خامنئى الطاعن فى السن، الأمر الذى سيولّد توقّعات أعلى فى إيران، وقد يُفضى بالتالى إلى زعزعة الاستقرار فى البلاد إذا وعد خليفته بمتابعة النهج نفسه. وفى ظلّ الخيارات بشأن حزب الله التى قد تثير استياءً محليًا وتعرّض هذه العملية الانتقالية للخطر، ما يهدّد بالتالى بقاء النظام، من غير الواضح على الإطلاق ما إذا ستكون القيادة الإيرانية فى موقعٍ يخوّلها إحياء ما كان لديها فى لبنان.
للأسف، سيبقى لبنان عبارة عن مجموعة بيادق وقطع قمار، تحرّكها كيفما تشاء الجهات الإقليمية والدولية الأوسع فى لعبة صراعها على القوة. لقد خسر كثرٌ من اللبنانيين فى الجنوب والبقاع وضاحية بيروت الجنوبية كل ما يملكونه، ومن أجل ماذا؟ كى تستخدمهم إيران كأكياس رمل تتلطّى خلفها لحماية نفسها ضدّ إسرائيل؟ أم لتُبرم الولايات المتحدة وإسرائيل ترتيبات عبر القنوات الخلفية على حسابهم؟

مايكل يونج
مدونة ديوان التابعة لمركز كارنيجى

النص الأصلى:
https://tinyurl.com/3mf5jjba

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved