عن مهند وزملائه
أهداف سويف
آخر تحديث:
الأربعاء 2 يناير 2013 - 9:35 ص
بتوقيت القاهرة
كنت أنوى الكتابة عن الشباب الذين وقفوا أمام مجلس الوزراء يوم السبت الماضى لينبهوا الناس إلى عزم الدولة على إهدار ربع مليون دولار من المال العام فى أجر ترخيص مايكروسوفت بينما البرمجيات مفتوحة المصدر موجودة، وببلاش، واعتمدتها وتستعملها الكثير من الحكومات. لأنى نزلت ورأيتهم، يقفون باللافتات، يتحدثون مع المارة والمستفسرين بوضوح، يوزعون البيانات الرصينة المليئة بالمعلومات المرتبة. وفرحت بهم، وشعرت أننا على طريق صحيح، يخاطب فيه شبابنا، اللى عارفين مهنتهم كويس، الحكومة والشعب، فالشباب يعرفون توابع القرارات الخاصة بمجالهم، وتأثيرها على اقتصاد البلاد واحتمالات النهوض بها.
كنت أنوى، ولكن جاء صباح الاثنين ــ آخر يوم فى عام ٢٠١٢ ــ بتغريدة مقتضبة تقول إن مهند سمير أصيب بخرطوش ويرقد فى مستشفى أحمد ماهر.
مهند سمير، الشاب صاحب التسع عشر عاما، عرفه المصريون فى أحداث مجلس الوزراء فى ديسمبر ٢٠١١، حين سقط زميله وصديقه رامى الشرقاوى إلى جانبه شهيدا، فذهب ــ وهو مصاب فى ساقه ــ ليقدم شهادته للنيابة وقال لهم إنه رأى قاتل صديقه، لا يعرف اسمه، لكنه موقن من أنه يستطيع التعرف عليه، فاحتجزوه ــ أى احتجزوا مهند ــ واتهموه وأنزلوه فى سراديبهم حيث رأى، كما قال «ضرب وإهانة وكهرباء وتعليق» ثم إملاء ما عليه أن يقوله لقاضى التحقيقات. وظل فى السجن أكثر من عشرة أشهر إلى أن أخلى سبيله.
أخلى سبيله، وطبعا ــ لإننا مش دولة ومش حكومة ومش بوليس ومش قضاء ومش أى حاجة غير تشكيلة عشوائية من العصابات ــ لم يكن هناك نظام حماية شهود مثلا يحمى شابا قال على الملأ إنه يستطيع التعرف على قاتل صديقه، لم يكن هناك نظام يُعَجِّل من سير القضية وحسمها، لم يكن هناك أى شىء سوى شاب جميل، يتيم الأب، قتلوا صديقه، وسجنوه هو وأهانوه ١١ شهرا، خرج إلى الحرية، فحضن أمه وباس راسها، والتحق بكلية الألسن، وعاد إلى التحرير علشان ــ بقوله ــ «لسه فيه حاجات كتير ماخلصتش»، وعلشان يجيب حقه وحق «أصحابى اللى ماتوا وماقدرتش أعمل لهم حاجة».
واليوم يرقد مهند فى العناية المركزة فى أحمد ماهر، وتقف أمه فى طرقة المستشفى ــ أو تتهاوى على إحدى الدكك ــ تقول «ده راح يجيب حق ده، وده راح يجيب حق ده، وكل اللى يروح يجيب الحق يموتوه».
مهند يرقد فى العناية المركزة لأنه فى غيبوبة. سيارة دودج نبيتية اللون جاءت إلى التحرير قبيل فجر الاثنين، بعد أسابيع قليلة من إخلاء سبيله، نزل من السيارة رجل أطلق الخرطوش فى وجه مهند بينما أطلق زميلا الرجل الرصاص الحى فى الأرض ليبتعد الناس، ثم فر الثلاثة بالسيارة.
توقف قلب مهند مرتين أثناء نقله إلى المستشفى. نزف. هناك بلية خرطوش مستقرة عنده ــ يقولون فى جذع المخ.
أمه وجدته وعمته يجلسن ويقفن ويمشين على باب العناية. كلهن سيدات قويات حاضرات متكلمات. ياه لكم الحب والدعم التى أغدقوها على هذا الشاب ولا زالوا، ياه لربطة قلوبهم بأنفاس الراقد فى الداخل.
أعداد هائلة من الشباب تروح وتجىء. بعض من أهالى الشهداء: أبومهاب، السند الحاضر أبدا. الدكتورة وفاء والدة الشهيد محمد مصطفى ــ تأخذ والدة مهند فى حضنها بدون كلام. تلتصق بها والدة مهند دقائق طويلة، طويلة. كم هائل من الدعاء يتصاعد من المستشفى ــ بل ومن مصر كلها.
اعقلها، وتوكل. علينا الآن مسئولية كبيرة ــ ربما أهم مسئولية تضعها الحياة على أكتافنا: كيف نضع حدا لاستهداف وقتل الشباب؟
اليوم، أشعر أن التحرير مسرح مُعَدّ؛ أى شىء يمكن أن يحدث فيه ــ ثم يُتَّهَم «صاحب كافيه» أو «الباعة الجائلين» أو «الطرف الثالث». لأن فى التحرير الآن لا أحد يعرف من يمشى إلى جواره، لا أحد يعرف من يؤَمِّن ــ أو لا يؤَمِّن ــ البوابات. التحرير الآن فخ وكمين، وعلينا أن نحدد ما الهدف المرجو من البقاء هناك ثم نجد طريقا آخر لتحقيق هذا الهدف.
تغريدة الآن تقول «أول فيديو من العناية المركزة: مهند بيحرك عينه الحمد لله يا رب».
ووراءها تغريدة تقول: الممرضة خرجت بشرتنا أن مهند سمير مؤشراته أفضل. والدته منعت الدخول له لدواعٍ أمنية. تسلل ضابط ودخل له فى الصباح من غير ما يقول.
برضه والدته هى اللى عليها تمنع الدخول وتمنع عنه الشر؟ سترك يا رب.
كنت سأكتب عن وقوف الشباب فى وجه إهدار أموال البلد، فوجدتنى أكتب عن إهدار الشباب نفسه، شبابنا أنفسهم، مورد بلادنا الأهم، وأجمل وأغلى ما عندنا، والفاعل الوحيد القادر على تغيير ما بنا، ودفع ثورتنا ــ إن نحن استطعنا حمايتهم.