ماذا حدث لرئيس مجلس الشورى؟
جلال أمين
آخر تحديث:
السبت 2 فبراير 2013 - 8:00 ص
بتوقيت القاهرة
الدكتور أحمد فهمى، رئيس مجلس الشورى، قام منذ أيام قليلة بعمل صغير لم يستغرق أكثر من دقيقة واحدة، ولكن تناقلته وكالات الأنباء، واهتمت به وسائل الإعلام، وعلق عليه كبار الكتاب. والسبب أن ما فعله رئيس مجلس الشورى كان عملا جديدا من نوعه، وغريبا جدا، كما كان طريفا للغاية. وهو من نوع الأعمال التى يحار من يسمع بها، من أين يبدأ فى التعليق عليها وأين ينتهى؟ فهو عمل على بساطته يثير كل الأفكار، ويفجر كثيرا من القضايا الفلسفية والأخلاقية والسياسية والاجتماعية والنفسية.. الخ، ويبعث على التساؤل عما إذا كان على من يريد التعليق عليه أن يلتزم الجدية التامة فى التعليق، مثلما فعل الكاتب الرائع الدكتور خالد منتصر (فى جريدة الوطن 25/1)، أم يتأوله بالسخرية الكاملة مثلما فعل الكاتب الموهوب والبالغ الظرف الأستاذ على سالم (فى جريدة المصرى اليوم 26/1). كلاهما قام بالواجب، ولكنى شعر بأن هناك أشياء أخرى كثيرة فى هذا العمل الصغير تحتاج إلى مزيد من التعليق.
1 ـ الحادث باختصار أن رئيس مجلس الشورى كان عائدا من الخرطوم فى طائرة مصرية، واكتشف وهو جالس فى الدرجة الأولى، أن الطائرة تعرض فيلما لتسلية الركاب تقوم ببطولته الفنانة نيللى. ونيللى فنانة مصرية محبوبة، اشتهرت على الأخص بتقديمها منذ سنوات فوازير رمضان على شاشة التليفزيون، وأذكر أن الجمهور المصرى تعاطف بشدة مع هذه الفوازير لحسن أداء نيللى وخفة ظلها. ولكن رئيس مجلس الشورى لم يعجبه أن يعرض فيلم لنيللى على الطائرة التى يركبها بسبب يتعلق بإثارة الغرائز (كما نشر فى وسائل الإعلام) وطلب من المسئولين فى الطائرة وقف عرض الفيلم. وقيل إن هذا العمل أثار استياء الركاب وإن كان قد أدى إلى وقف عرض الفيلم بالفعل.
وأول ما يخطر على البال: ما الذى جعل الرئيس الجديد لمجلس الشورى يظن أن من حقه فرض رأيه على هذا النحو على بقية الركاب؟ هل لأنه رئيس لمجلس الشعب؟ فما معنى «الشورى» إذن؟
2 ـ لماذا يرتبط «الموقف الدينى المتشدد» هذا الارتباط الوثيق فى الأذهان بالتسلط وفرض الرأى الواحد؟ أو بعبارة أخرى، لماذا يجد كثيرون من المتبنين «للموقف الدينى»، من السهل عليهم أن يحدثوا الناس وكأنهم دون غيرهم الذين يعرفون الحق من الباطل؟ وأن كل من يعارضهم فى الرأى فاسق أو كافر؟ أو بعبارة ثالثة: لماذا يجد الكثيرون من المتدينين من المقبول أن يتصرفوا وكأن كلا منهم «حاكم بأمر الله؟».
إن ادعاء أى إنسان بأنه يعرف المقاصد الإلهية أكثر مما يعرفها غيره يبدو للأسف أكثر شيوعا من ادعاء أى إنسان بأنه يفهم ما يقصده أى مفكر من البشر أكثر مما يفهمه أى إنسان آخر. لماذا هذا التجرؤ المذهل على النصوص المقدسة، بحيث يدعى شخص ما، ولو كان رئيسا لمجلس الشورى، أنه دون غيره يفهمها على الوجه الصحيح، ومن ثم فإن من حقه أن يفرض هذا الفهم، بقوة منصبه، على بقية ركاب الطائرة؟
لماذا نجد الكثيرين من مدعى التقوى والتدين الشديد يتسمون أيضا بثقل الظل؟ لماذا يندر أن نرى على شاشة التليفزيون مثلا، داعيا دينيا بشوش الوجه، مستعدا لأن يبتسم أثناء الكلام، أو أن يدخل فى كلامه شيئا مما يبعث السرور والفرح بالحياة؟
أصارح القارئ بأنى لا أجد لهذا إلا تفسيرا واحدا، هو أن احتمال اقتران التشدد الدينى بالنفاق، أكبر منه فى كثير من المواقف الأخلاقية الأخرى، لقد صادفنا كلنا فى صبانا أمثلة للمدرس أو ناظر المدرسة ثقيل الظل، الذى يخشى أن تبدو على وجهه ابتسامة، أو أن تبدو منه ضحكة، فتهتز صورته أمام التلاميذ، بينما هو قادر فى الحقيقة على الانفعال مثل غيره بنفس المواقف التى تدعو للابتسام أو الضحك. فهل المتشدد فى تفسير الدين يحاول أيضا، كالمدرس أو ناظر المدرسة المتشدد، أن يرسم لنفسه صورة مخالفة للحقيقة أمام التلاميذ؟ ولكننا لم نعد تلاميذ صغارا، وما قد يُغتفر لناظر المدرسة فى معاملة التلاميذ لا يغتفر لرئيس مجلس الشورى فى معاملة بقية خلق الله.
المصريون، كغيرهم من الشعوب، يرقصون ويغنون منذ آلاف السنين، كما تشهد بذلك الرسوم المنحوتة على آثار قدماء المصريين. وقد ظلوا يرقصون ويغنون إلى ما قبل تحول مصر إلى الإسلام، واستمروا يغنون ويرقصون بعد تحولهم إلى الإسلام. فهل يظن أى شخص أن بقدرته أن ينهى هذا التاريخ كله فى لحظة، لمجرد أنه جرى تعيينه رئيسا لمجلس الشورى؟
ما هو المعنى الحقيقى للفضيلة؟ أن تكون نظيف القلب والذهن، أم تبدو أمام الناس وكأنك نظيف القلب والذهن، حتى ولو لم تكن كذلك فى الحقيقة؟ ولماذا يختلف الناس إلى هذه الدرجة فى إعطاء الأولوية لهذا أو ذاك؟ لماذا يفسر البعض الدين بما يؤكد على الظهور بمظهر الشخص الفاضل النقى، بصرف النظر عن حقيقة ما يدور فى القلب والذهن، بينما يفسره آخرون بمعنى يؤكد على ما يدور فى داخل النفس؟ لقد عرف تاريخ الأديان هذين النوعين من الناس على مر العصور، فكيف نفسر هذا الاختلاف يا ترى؟ هل يولد الناس هكذا، أى أن لدى البعض استعدادا طبيعيا للاهتمام بالظاهر وبرأى الناس فيهم أكثر من اهتمامهم بما يدور داخل النفس وبرأيهم هم فى أنفسهم؟
أم أن للظروف الاجتماعية أثرا مهما فى انتشار أحد الموقفين على حساب الآخر؟ ربما كان التفسير مزيجا من الميل الطبيعى وأثر الظروف الاجتماعية. لقد عرفت فى حياتى (ولا بد أن كلنا قد عرف أيضا) هذين النوعين من الناس، بل لقد عرفت بعض الأشخاص الذين تحولوا من موقف لآخر، من التسامح إلى التشدد، ومن الاهتمام بحقيقة المشاعر إلى الاهتمام بما يبدو منها فى الظاهر، بسبب تغير فى ظروف حياتهم، أو بسبب استسلامهم لما رأوه من تغير فى موقف الجماهير الغفيرة، فخشوا بأسها أو أرادوا تحقيق بعض النفع من مسايرتها.
بل يلفت نظرى أيضا ما طرأ على التفسير الدينى الشائع فى مصر خلال المائتى عام الماضية، مع تغير ظروف مصر الاجتماعية. لماذا كان الشيخ محمد عبده مثلا أكثر لطفا وأوسع أفقا من رئيس مجلس الشورى الحالى؟ ولماذا كان الشيخ حسن البنا أكثر استعدادا للابتسام، ولتقدير الأدب والشعر والفن من معظم من يظهرون على شاشة التليفزيون اليوم من الدعاة الدينيين؟ هل لهذا التطور، إلى الأسوأ فى نظرى، علاقة بما طرأ على الطبقة الوسطى المصرية من تطور خلال المائة عام الماضية؟ أم لعل له علاقة أيضا بالاتساع الشديد للفجوة بين أحوالنا الاجتماعية وبين الأحوال السائدة فى الدول الأكثر تقدما منا فى التكنولوجيا والاقتصاد، التى نحاول جهدنا اللحاق بها دون نجاح، فيزداد شعورنا بالعجز مع مرور الوقت، فإذا بنا نرى أعدادا أكبر فأكبر من الناس يلجأون إلى تفسيرات مدهشة للدين، تقول لنا إن محاولة اللحاق بهم، سواء فى الاقتصاد أو فى الفن أو فى غير ذلك، تتعارض مع الفضيلة، مع التفسير الصحيح للدين؟
إذا ركزنا النظر فقط على ما يدور داخل الذهن والقلب فى تحديد معنى الفضيلة، وصرفنا النظر عما يظهر للناس، فما هى تلك الأفكار والمشاعر «الفاضلة»، وما هى الأفكار والمشاعر «السافلة»؟ هل الخطأ الأخلاقى يكمن فى وجود «الرغبة»، أم فى العجز عن السيطرة عليها إذا كان فى تحقيق هذه الرغبة ضرر بالمجتمع أو بصاحبها؟ بعبارة أبسط: هل الخطأ الأخلاقى يكمن فى مجرد الانفعال بالوجه الجميل والرقص البديع، لأن هذا الانفعال يمكن أن يدفع المرء إلى سلوك لا تحمد عقباه، أم يكمن الخطأ الأخلاقى فى ضعف الإرادة إلى درجة ارتكاب هذا السلوك المرفوض اجتماعيا؟ فإذا كان الخطأ الأخلاقى يكمن فى مجرد «الرغبة»، فيالها من نكبة، ويا لسوء طالع الإنسان فى كل مكان! إذن ماذا يبقى من الإنسان إذا تخلص من كل رغبة، ولم يعد هناك ما يمكن إثارة أى إحساس لديه؟
هل يُعد الإنسان متحضرا بمقدار نجاحه فى التخلص من رغباته وشهواته، أم بمقدار قدرته على السيطرة عليها؟ هل التحدى الذى تنطوى عليه مسيرة التحضر، وكذلك التحدى الذى تنطوى عليه الرسالات السماوية، يتمثل فى شحذ قدرة الإنسان على السيطرة على نفسه، أم فى قدرته على التخلص من أى مظهر من مظاهر الحياة، أى فى قدرته على الانتحار أو الانسحاب من الوجود؟