مقايضات معضلة غزة!
عبد الله السناوي
آخر تحديث:
الأحد 2 مارس 2025 - 6:45 م
بتوقيت القاهرة
إنها مقايضات معلنة تهدد مصر فى أمنها وسلامتها ومستقبلها.
بلا أدنى مواربة يقترح زعيم المعارضة الإسرائيلية «يائير لابيد»، أن تتولى مصر مسئولية إدارة قطاع غزة لمدة (8) سنوات قد تمتد إلى (15) سنة لدواعى حفظ الأمن الإسرائيلى بالوكالة ونزع سلاح المقاومة مقابل تسديد ديونها الخارجية الثقيلة، التى تبلغ (155) مليار دولار.
هكذا بضربة واحدة، تحفظ إسرائيل أمنها وتنهى مصر معاناتها الاقتصادية.
بنظرة أولى، يبدو ذلك المقترح تجاوزًا متفلتًا بحق مصر وتاريخها ووجودها نفسه لا يستحق الالتفات إليه. قضايا الأمن القومى ليست موضوعًا للبيع والشراء.
بنظرة أخرى، أخطر ما فيه طريقة التفكير نفسها، التى تنطوى على محاولة استثمار استراتيجى فى الأزمة الاقتصادية المصرية لمقتضى إنهاء الأزمة الإسرائيلية المستحكمة فى غزة وتوريط أكبر دولة عربية فيما لا يخطر على بال أو يحتمله ضمير.
كان الرفض واضحًا وصريحًا، لكنه لا يكفى وحده، فالفكرة سوف تعاود طرح نفسها بصيغ أخرى. تحتاج مصر إلى أن تصارح نفسها بالحقائق، أن تسد الثغرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية فى بنية البلد، حتى لا تستخدم ضدها فى مسائل وجودية، أن تكون أو ألا تكون. مجرد التفكير على النحو الذى ذهب إليه «لابيد» يستدعى المراجعة الجدية فى السياسات والأولويات، وتصحيح أية مسارات خاطئة.
إثر عملية السابع من أكتوبر (2023) اهتزت إسرائيل عسكريًا واستخباراتيًا، بدا الفشل مروعًا- على ما اعترفت تحقيقات جيشها، التى كشف عنها مؤخرًا. رغم ضراوة العمليات العسكرية الإسرائيلية، التى استهدفت البشر والحجر وكل شىء يتحرك بالحياة فى القطاع، فإنها فشلت فى تحقيق أهدافها المعلنة وغير المعلنة، لا اجتثت المقاومة الفلسطينية المسلحة ولا استعادت الأسرى والرهائن بغير وسيلة التفاوض.
طرحت الإدارة الأمريكية السابقة تصورًا لـ«اليوم التالى» فى محاولة مبكرة للإجابة عن السؤال التالى: كيف يحكم قطاع غزة بعد اجتثاث «حماس»؟
أرادت أن تحقق لإسرائيل بالسياسة ما عجزت عنه بالسلاح. لم يقبل نتنياهو أية سيناريوهات للخروج من مستنقع غزة بأقل الأضرار خشية أن يكون ذلك اعترافًا بالفشل عن تحقيق ما أسماه بـ«النصر المطلق»، والأهم أن يفضى ذلك إلى تفكيك حكومته اليمينية المتطرفة.
لم تبدِ المعارضة الإسرائيلية، التى يتزعمها «لابيد»، أية درجة من الرفض لوحشية التقتيل الجماعى والتجويع المنهجى للمدنيين فى غزة.
كان ذلك سحبًا من أى رصيد مفترض. كما لم تعارض سيناريو التهجير القسرى من غزة إلى سيناء ومن الضفة الغربية للأردن. بدت معارضتها على هامش خيارات «نتنياهو» لا فى صلبها.
لا بد أن نلتفت إلى أن وزير الخارجية الأمريكى السابق «أنتونى بلينكن» تبنى بالأيام الأولى من الحرب على غزة سيناريو التهجير القسرى محاولًا إغواء مصر المأزومة اقتصاديًا بمساعدات مالية تساعد على تخفيف معاناتها مقابل القبول بالتهجير.
فكرة «لابيد» ليست جديدة، والرئيس الأمريكى دونالد ترامب ألمح إليها فى معرض دعوته لإخلاء غزة من أهلها، بعبارة لافتة: «لقد ساعدناهم ماليًا، مصر والأردن، وجاء الوقت أن يستجيبوا لما نطلب».
فى المرتين تراجعت الإدارة الأمريكى على خلفية رفض فلسطينى ومصرى وأردنى وعربى جماعى. لا جاء على ذكره «بلينكن» مرة أخرى، ولا صعد «ترامب» ضغوطه، مشيرًا إلى أنها مجرد مقترح أو نصيحة.
فى زيارة «لابيد» لواشنطن أراد أن يمد خيوطه مع الإدارة الجديدة، وأن يجد مشتركات تجمعه معها أكثر من «نتنياهو»، الحليف القديم. لماذا يتبنى الآن «لابيد» لغة المقايضة؟
يستلفت النظر أولًا، أنه طرحها أمام أحد مراكز الأبحاث المهمة بواشنطن (FDD)، الذى يعهد عنه دعم وتأييد السياسات الإسرائيلية.
هذه إشارة إلى نوعية المخاطبين بمقترحه، بما فيهم أركان إدارة «ترامب» بنزوعهم لتبنى الخيارات الصهيونية المتشددة.
ويستلفت النظر ثانيًا، إشارته إلى جوهر خطة «ترامب» لتطهير غزة من الفلسطينيين، كما لو أن ما يطرحه يستهدف ما طلبه «ترامب» بصورة مختلفة.
ويستلفت النظر ثالثًا، أن زيارته لواشنطن ترافقت مع ما بدا إنها سيولة فى الموقف الأمريكى بشأن المرحلة الثانية من المفاوضات، لا أكد التزامه بالمضى فيها، ولا أفسح المجال كاملًا لـ«نتنياهو» أن يستأنف الحرب. قال حرفيًا: «إن قرار الدخول فى المرحلة الثانية هو قرار إسرائيلى محض». فى تفسير لتصريح «ترامب»، التى تعنى الشىء وعكسه، إنه يقصد تحميله وحده مسئولية الحفاظ على حياة الأسرى والرهائن.
بدت تلك الظروف والملابسات مناسبة لـ«لابيد» أن يتقدم بمقترحاته لإثبات أفضليته عن «نتنياهو» فى خدمة المصالح الإسرائيلية والأمريكية. ارتكزت خطته على إيجاد حل واحد لأزمتين متفاقمتين.
الأولى، أمنية إسرائيلية حيث لا يمكن لإسرائيل القبول ببقاء «حماس»، ولا يمكن لها بنفس الوقت التعويل على السلطة الفلسطينية، التى لا تقدر على الوفاء بمتطلبات السيطرة على القطاع. خيار الاحتلال العسكرى المفضل عند «نتنياهو»، غير مرحب به على كل المستويات.
والثانية، اقتصادية مصرية حيث أسهب فى شرح الأوضاع الصعبة وخطورة تداعياتها على الاستقرار فى مصر والشرق الأوسط وإفريقيا.
السؤال هنا: من يتولى سداد الدين الخارجى لمصر؟! الاقتصاد الإسرائيلى منهك و«ترامب» فى غير وارد المساعدة فرجل الصفقات يأخذ ولا يعطى.
بنص صياغاته فإنه يعول على «المجتمع الدولى وحلفاء مصر الإقليميين».. داعيًا أن تقود مصر قوة سلام بالشراكة مع دول الخليج والمجتمع الدولى لإدارة غزة وإعمارها.
إذا كان الأمر ممكنا بهذه الصورة فما دور إسرائيل بالضبط غير أن تحصد دون أن تدفع أو بالمقابل استعدادًا لتقديم أية أثمان سياسية!
لا يمكن إعادة بناء غزة دون وجود جهة إشرافية يمكنها التفاهم مع إسرائيل. وذلك سوف يزيل من أذهان المصريين فكرة نقل سكان غزة إلى أراضيها!
النقطة الجوهرية فى الخطة: نزع السلاح الكامل فى غزة. وهذا شرط لإعادة الإعمار. ذروة المأساة أن أصواتًا عربية بدأت تتبنى الخيار نفسه: نزع السلاح مقابل إعادة الإعمار!