استعادة الحياة لمدينة القصير
نبيل الهادي
آخر تحديث:
الخميس 4 أبريل 2019 - 9:29 ص
بتوقيت القاهرة
فى موقعها البالغ نحو 120 فدانا والواقع على البحر مباشرة شمال المنطقة التاريخية فى مدينة القصير ساهمت الشركة الإيطالية ــ لعقود طويلة بدأت فى 1916، من خلال نشاطها الرئيسى ــ فى استخراج وتركيز وتصدير الفوسفات حيث أدرك القائمون على الشركة منذ البداية أن مصلحتهم المباشرة دعم الأنشطة الأخرى مثل التى تهتم بالتعليم والصحة والكهرباء فى المدينة حتى يمكنها تحقيق ما تهدف إليه من ربح. ومثلت الوظائف التى أوجدتها الشركة وتقدر بعدة الآف فى إحياء النشاط الاقتصادى للمدينة وربما للإقليم أيضا وكان دور الشركة رئيسيا للدرجة التى يمكن معها اعتبارها المحرك الاقتصادى الرئيسى لمدينة القصير..
وقد أدى تأميم الشركة فى عام 1959 ثم ضمها إلى شركة النصر للتعدين ثم صدور قانون البيئة فى عام 1994 إلى تأثير كبير على عملية الإنتاج التى توقفت تماما قرب نهاية القرن العشرين.
***
وفى إطار برنامج دراسة الماجستير المزدوج فى العمران بين جامعة القاهرة والجامعة التقنية بكوتبوس يستهدف أحد المقررات القيام بتخطيط مشروعات مستدامة للتنمية يمكن تحقيقها على أرض الواقع. ويهدف هذا المشروع ــ «استعادة الحياة لمدينة القصير» (مارس 2017 وحتى مارس 2018) ــ إلى دراسة كيف يمكن إعادة استخدام موقع الشركة بالقصير بما عليه من مبان تاريخية وبنية تحتية وموارد أخرى بصورة تمكن جميع الأطراف المرتبطة بالموقع ــ الشركة والمدينة والإقليم (المحافظة) ــ من الاستفادة الكبرى ليست فقط الاقتصادية ولكن الثقافية والاجتماعية والبيئية. ويعتمد المدخل الرئيسى لتحقيق ذلك على أربعة أسس للتنمية المستدامة: البعد الاقتصاد، البعد الاجتماعى، البعد البيئى، البعد الثقافى.
ويهتم بصفة خاصة بالبعد البيئى نظرا لحساسية النظام البيئى للبيئة البحرية فى البحر الأحمر وخاصة فى ظل التوقعات التى ليست بعيدة الخاصة بالتغيرات المناخية (والتى كانت مصر من الدول الموقعة على الاتفاقية الخاصة بها فى 2015 فى باريس والمعروفة بـCOP21). وتعتمد الدراسة على نقاشات متعددة مع متخصصين فى الاقتصاد والبيئة والتغير المناخى والطاقة المتجددة وآخرين كما تعتمد أيضا على نقاشات مع ممثلى شركة النصر للتعدين. وتقوم الدراسة أيضا بمراجعة المخططات العامة الخاصة بالمدينة والتى أعدتها هيئة التخطيط العمرانى وأيضا الرؤية الاستراتيجية لمصر 2050.
وتم فى هذا الإطار تطوير مقترح أولى يمثل رؤية متكاملة تهدف لتحقيق الصالح العام ليس فقط للمدينة وقاطنيها ولكن للإقليم بصورة أكبر (وهو ما يتفق مع فهم التنمية المستدامة والتى لا يجب فيها الفصل بين الأهداف المحددة (أو المحلية) لمكان ما عن مدينته أو إقليمه).
تعتمد الدراسة على فكرة أساسية وهى فهم التحديات العمرانية والاقتصادية والبيئية الرئيسية التى تواجه السياق العمرانى للموقع (وهو مدينة القصير) والتعامل مع تلك التحديات كفرص حقيقية للتنمية يستفيد منها مالكو الموقع والمطورين كما يستفيد منها مواطنو المدينة بما يدعم الحفاظ على واستمرارية الموارد المتاحة.
وتتعامل الدراسة مع السياق العمرانى للموقع ( مدينة القصير) وتحاول أن تدرس وتحلل الجوانب المختلفة له وتبدأ بدراسة الأصول العمرانية كما تعتنى الدراسة بفهم النواحى السكانية والنواحى المكانية الأخرى.
وتفرد الدراسة بابا خاصا يتناول الثلاث تحديات الرئيسية لهذا السياق العمرانى وهى توافر الماء وتوافر الطاقة وتوافر الطعام. وتدرس بالتفصيل الجوانب المختلفة لتلك التحديات وبالتالى انعكاس تلك التحديات على الوضع الحالى وإمكانات التطور المستقبلى. وانطلاقا من الفهم المعمق للتحديات الثلاث تقوم الدراسة بتحليل وتقييم موقع المشروع وتحديد الموارد الموجودة بالموقع وحوله ثم يطور المشروع رؤية أولية تتمثل فى الاعتماد على الموارد المحلية الموجودة كأساس للتنمية المستدامة للموقع من خلال التعامل مع المبانى القائمة بما تحويها وأيضا نواتج عمليات التركيز السابقة من الأتربة الفوسفاتية والأماكن المختلفة فى الموقع والهياكل المعدنية التى ما زالت قائمة بالإضافة إلى العديد من الموارد الطبيعية مثل مياه البحر وأشعة الشمس وذلك لصياغة مقترح تنموى متعدد الأبعاد يستطيع إيجاد عدد من فرص العمل المستدامة تقارب من تلك التى كانت موجودة فى أوقات ازدهار مصنع الفوسفات مع فارق جوهرى وهو أن الأنشطة التى تدخل فى إطار هذه الرؤية هى أنشطة رفيقة للبيئة وتسهم بصورة مستدامة فى التعامل مع تحديات البقاء والتنمية فى المدينة مما يساعد فى إعادة الدفع بالمدينة مرة أخرى نحو تنمية حقيقية تضع فى قلبها مواطنو المدينة فى الوقت التى تخلق عائدات اقتصادية للمالك والمطورين وأيضا الحكومة. وترتكز أحد جوانب الرؤية على ضرورة المساهمة فى الاستثمار متوسط وطويل الأجل فى التعليم بمختلف مراحلة وأيضا فى الرعاية الصحية مما يساهم فى توفير مواطنين ذوى قدرات متطورة وصحة جيدة ليس فقط للعمل فى الأنشطة التى سيتم توليدها فى الموقع ولكن فى أنشطة وأماكن أخرى فى المدينة. والاعتماد بصورة رئيسية على الموارد المحلية يستلزم التعامل مع المشروعات والأنشطة المقترحة بصورة مجموعات من المشروعات ذات أحجام يمكن تمويلها بصورة رئيسية من مصادر محلية كما تتطلب الرؤية أيضا العمل فى مراحل متعددة والسماح بالمرونة الكافية فى المراحل المختلفة لتبنى تعديلات ومدخلات قد تتلائم بصورة أفضل مع المعطيات والتحديات الموجودة فى وقتها.
***
ويطور المشروع المقترح إطارا مقترحا للعمل والأنشطة والتنفيذ لا يقيد التنمية على مداها البعيد ولكن يرسم لها البدايات فى إطار الأهداف التنموية والمحددات الاقتصادية والبيئية. ويشرع المقترح فى توضيح تلك المقترحات من خلال دراسات ورسومات تنقل للأطراف المستهدفة من عملية التنمية التصورات الأولية التى تصلح بداية حقيقة للمشروع التنموى فى موقع مصنع الفوسفات بالقصير وبالصورة التى نعتقد أنها ملائمة لمدن أخرى ليس فقط على البحر الأحمر ولكن فى مناطق مختلفة من مصر.
هناك العديد من الأفكار التى ظهرت من خلال العمل على المشروع طوال السنة الماضية نتيجة تطبيق المنهجية المقترحة والتى يمكن تطبيقها لتعظيم العائد مما هو قائم من خلال قفزات تنموية متتالية. منها مثلا التعاون مع المركز الثقافى الإيطالى فى رعاية بعض المبانى وتحويل بعضها إلى مكان للفن يقصده الفنانون من أنحاء العالم بما يساهم ليس فقط فى التعريف بالمكان ولكن إعادة بناء التعددية الثقافية والبشرية التى لطالما ميزت مدينة القصير لقرون فى إطار استخدام ميناءها للحج وقبلها من خلال استخدامها كبوابة بحرية لفراعنة مصر وغير ذلك ما حدث فى عصور استوطن فيها الرومان المكان ونقلوا من أحجار الجرانيت ما استخدم فى بناء معابدهم فى روما.
يقوم هذا المقترح المفصل على فكرة أساسها أن شركة النصر للتعدين والتى استمرت فى هذا الموقع الثمين لمدة تزيد على المائة عام عليها مسئولية ليس فقط تجاه المساهمين والعاملين ولكن أيضا تجاه مجتمع مدينة القصير التى استفادت منه عبر السنين وبالطبع أفادته أيضا. وعلى الحكومة متمثلة فى المحافظة مسئولية كبرى فى توجيه وتشجيع الاستخدام الأفضل للأماكن بما يدعم المصلحة العامة وعلى المواطنين مسئولية أيضا تجاه العمل على دعم الأفكار التى تدعم المصلحة العامة والتى ستفيدهم مما لا شك وتفيد أولادهم فى المستقبل. وتستدعى تلك المسئولية المشتركة عدم استخدام المخرج الأسهل والذى قد يبدو كما تطرحه المحافظة فى التنمية السياحية والتى للأسف الشديد لا يمكنها وحدها دعم تنمية مستدامة كما تحاول الدولة جاهدة فى الدفع باتجاه خطتها مصر 2030. المقترح الذى طورناه يدفع بالاتجاه الذه تتبناه الدولة رسميا وتلتزم به أمام المجتمع الدولى فى تحقيق التنمية المستدامة القائمة على الاستفادة الذكية من مواردنا المحلية. وهذه الموارد أولها عقولنا وأفكارنا وخيالنا وبها نستطيع أن نحقق لأنفسنا ولأهلنا فى الأماكن المختلفة فى مصر حياة كريم يستحقونها.
أستاذ العمارة بجامعة القاهرة