مولانا البوصيري
عاطف معتمد
آخر تحديث:
الثلاثاء 2 أبريل 2024 - 7:30 م
بتوقيت القاهرة
لدينا هنا مسجد فريد عجيب، يتوسط الموقع الجغرافى للقوس البحرى لميناء الصيادين الذين ينثرون مراكبهم الزرقاء والسماوية اللون على صفحة المتوسط كأنها عرائس البحر. وبضع نخلات فوق أطلال ربوة قديمة يفصلن بين البحر والمسجد. وحين تولى وجهك شطر القبلة يكون البحر عن يسارك فتراه بزرقة بهية من ثلاث نوافذ تجعل من الجلوس فى المسجد نزهة وفسحة وقربى إلى الله.
أقواس خط الساحل فى بحر الإسكندرية تتغاير مع اتجاهات القبلة، فالجالسون فى مسجد مولانا البوصيرى يتنعمون برؤية البحر عن يسارهم بينما المصلون فى مسجد «سيدى بشر» فى وسط المدينة لابد أن يعطوا ظهورهم للبحر فلا يرون منه شيئا. منذ ثلاثة أعوام، ويوما ما صليت الجمعة فى مسجد سيدى بشرى، رأيت أحد كبار السن أدار مقعده ليستقبل البحر، بينما ظهره لكل من القبلة والإمام الذى يخطب، مخالفا بذلك قواعد الصلاة لأنه أراد أن يلبى شغف نفسه بأن يرى أمواج البحر وزرقة المياه، بينما يسمع كلام الله. الناس فى مسجد سيدى بشر متسامحون، لم ينهره أحد ولم يعاتبه عابر ولا مقيم.
هنا فى مسجد مولانا البوصيرى نجمع كل الحسنات: البحر عن يسارنا ومسجد سيدى المرسى أبى العباس عن يميننا والبهو الرخامى المكشوف من خلفنا. يتمتع البهو الرخامى ومحل الوضوء بالنظافة، ما إن دخلت إليهما حتى تذكرت أسلوب التصميم المعمارى لمساجد الهند لا سيما فى راجستان، حين تستوقفنى مساجدها والحوض المائى المرمرى الذى يتوسط المسجد وبه قنوات لتصريف مياه الوضوء. وهو تقليد يشبه المعابد الهندوسية ويشبه أيضا المعابد المصرية القديمة، بل إن بعض الأديرة والكنائس فى صعيد مصر تتبع نفس التصميم بوضع نافورة أو بركة الغطاس فى منتصف الدير.
يعرف من زار مسجد البوصيرى تفرده فى الأبعاد الروحية التى ساهم فيها التصميم المعمارى بالغ الذكاء والذى يعود لعصر الخديوى توفيق. تجمع عمارة المسجد بين النمط الأوروبى الذى تشتهر به أسقف ونوافذ الكنائس الشهيرة، فبعض الجوانب تذكرنى بجدران من كاتدرائية نوتردام فى باريس، لا سيما الزجاج الملون الذى يرشح أشعة الشمس فيسقطها فى الداخل بألوان بهية تجلب الفرحة.
المسجد أنفق عليه بسخاء شديد وقت التعمير منذ عهد الخديوى توفيق سواء فى التصميم أو فى البناء أو فى التطعيم بالجدران الخشبية والنوافذ التى تستقبل هواء البحر بتكيف بالغ مع البيئة. وتقوم القبة الرئيسية فى المسجد على ستة أعمدة من رخام: النصف الأسفل فى كل عمود من رخام رمادى والعلوى من رخام أصفر برتقالى. فى الجانب الأيمن من المسجد ضريح مولانا البوصيرى وله بابان: واحد للنساء والآخر للرجال.
إذا كانت عمارة المسجد الحديثة تشير إلى ما لا يزيد على 150 سنة فقط منذ الربع الأخير للقرن 19 إلا أن قصة حياة الإمام البوصيرى نفسه تعود إلى ما يزيد على 700 سنة. إذ توفى الإمام البوصيرى فى نهاية القرن 13 ميلادى وله قصيدة شهيرة تسمى «البردة».
يعرف الشعر العربى قصة شاعر الجاهلية كعب بن زهير الذى حين دخل الإسلام ألف قصيدة فى مديح الرسول حظى تقديرا له ببردة الرسول الذى قبل اعتذاره عن هجومه قبل الإسلام. ونعرف فى الشعر الحديث قصيدة لشوقى فى مدح الرسول تسير على نفس نهج قصيدة كعب بن زهير. وما بين الزمنين، لدينا قصيدة الإمام البوصيرى، وهى قصيدة فريدة فى مدح الرسول سميت أيضا باسم «بردة البوصيرى» أسهل فى لغتها من بردة كعب وأقرب للروح والناس من قصيدة شوقى.
تذهب الرواية المتوارثة عبر القرون إلى أن البوصيرى، وهو شاعر ومتصوف وفقيه وعالم دين، أصابه شلل نصفى فدعا الله بالشفاء ورأى الرسول الكريم فى رؤيا فقبل شفاعته للشفاء، وألقى عليه بردته فقام البوصيرى من مرضه وقد شفى من كل سقم. والبوصيرى اسم ينسب إلى بلدة «أبوصير» فى مصر الوسطى، بين بنى سويف والفيوم حاليا. وكلمة أبوصير عند بعض التفسيرات تعود إلى اسم المعبود المصرى القديم «أوزير». أما الاسم الكامل للإمام البوصيرى يضم نسبا إلى صنهاجة من بلاد المغرب العربى تنتمى إليه عائلته التى نزلت وادى النيل ربما قبل أكثر من ٨ قرون.
عمل البوصيرى قاضيا فى إقليم الشرقية قبل أن ينتقل إلى الإسكندرية رغبة فى التعلم على يد الإمام المرسى أبى العباس، وسكن بجواره. وبرع فى الشعر، ويحتفظ التراث الأدبى والصوفى بقصيدته الشهيرة منذ سبعة قرون.
تتألف قصيدة «بردة» البوصيرى من 160 بيتا موزعة على عشرة أقسام ما بين مدح الرسول وتهذيب النفس وفضائل القرآن وحكمة الحياة والاعتراف بالخطأ والذنب والأمل فى رحمة الله. بردة تمس الروح، بليغة فى المعنى، ثرية فى اللغة والخيال. مولانا الذى يعرفه أهل الإسكندرية بصيغة «الأباصيرى»، ويقيمون حوله مراجيح ولعب أطفال تدخل مزيجا من الضوضاء واللهو والبهجة والتسامح!
خرجت من مولانا البوصيرى مشحونا بالطاقة فتركت قدماى إلى «سوتير»، وقبل أن أتجه إلى ذلك الشارع الشهير التفت إلى مسجد سيدى المرس أبوالعباس، فتذكرت قصة قصيرة لطيفة لنجيب محفوظ تسمى «دنيا الله»، وهى القصة الأولى من المجموعة القصصية التى تحمل نفس الاسم، والتى ألفها محفوظ فى عام 1963.
موجز القصة أن موظفا تجاوز الخمسين من عمره يعمل ساعيا متواضعا فى مصلحة حكومية، وقد قام فجأة ودون مقدمات ولا علامات ولا أمارات باختلاس مبلغ كبير من مال المصلحة وفر به مع امرأة كان مغرما بها.
لم يفر الرجل ليبدأ حياة جديدة موازية، بل ليأخذ جرعة من لذة أولى وأخيرة، متحررا من حياة الشقاء والتعب والهامشية، الجرعة التى أخذها الرجل بعد شقاء كل سنين العمر لم تزد على أسبوعين أو ثلاثة ثم تمكن البوليس من إلقاء القبض عليه بعد أن بدد كل المال وسمح للمرأة التى ذاق السعادة معها بأن تذهب إلى حال سبيلها.
القصة القصيرة تثير أسئلة عما يعتبره بعض النقاد وقائع غرائبية، لكنها تتقاطع بشكل آو بآخر مع حلقات مشابهة فى حياتنا الاجتماعية من فترة لأخرى.
وأختم بأننى قرأت القصة ليس بهدف البحث عن تحليل اجتماعى ولا نقد أدبى فى الفن الذى لا أحترفه، بل لأننى كنت أفتش عن «الأماكن» عند نجيب محفوظ.
فى هذه القصة يدهشنا أن البطل فر مع المرأة التى عشقها ليتجرع أول وآخر رشفات اللذة، فغادر القاهرة هاربا إلى «أبى قير» ليكون فى منأى عن القبض عليه.
كانت أبوقير فى الخمسينيات أقرب إلى مكان منعزل لا يتردد عليه أحد، وبينها وبين الإسكندرية مسافة بعيدة نسبيا. فى لحظة الاستسلام وبعد أن أفاق صاحبنا إلى نفسه، ترك لعشيقته الحرية وأعطاها ما تبقى معه من مال وغادر «أبوقير» مفلسا، وسافر إلى الإسكندرية، ساقته أقدامه إلى مسجد المرسى، دلف وصلى وأناب واستسلم.
خرج صاحبنا الشقى من المسجد فقابله مخبر البوليس الذى كان يبحث عنه، وسأله: «تعبتنا الله يتعبك.. مين قالك تعمل فى نفسك كده؟» فيجيبه صاحبنا الشقى: «الله»!