مصر التي في خاطرهم
أمينة البنداري
آخر تحديث:
السبت 2 مايو 2009 - 6:23 م
بتوقيت القاهرة
ساد قنوات التليفزيون، القومية والخاصة منها، فى الأسبوع الماضى جو عام مفعم بالوطنية وبتأكيد أهمية سيناء ودور «أهل سيناء» فى التضحية من أجل مصر. وكان شريط الصوت المصاحب لتلك الجرعة المكثفة من التربية القومية من أغان وطنية مصورة على أحدث تقنية. هذه الأغانى تتخيل مصر جديدة ليست موجودة على أرض الواقع. وهى أغان مصنوعة على نسق الإعلانات ويتم إخراجها بذات التقنيات و«تروج» لمفهوم وصورة جديدة للوطن. تقدم هذه الصورة فى وقت تعاد فيه هيكلة السياسة والاقتصاد والمجتمع فى مصر فتعبر بشكل ما عن الذهنيات التى تحكم هذا التحول.
ظهرت هذه الأغانى منذ حوالى عام 2005، وهو كان عاما مليئا بالأحداث السياسية الرنانة لدرجة أن بعض المحللين كانوا يطلقون عليه الربيع العربى. فى مصر كان عام الانتخابات والاستفتاءات والتعديلات الدستورية، والوقفات الاحتجاجية، فكانت الأغانى جزءا من الترويج للفكر الجديد والتصور الجديد للوطن.
تتكرر عدة مشاهد وموتيفات فى الأغانى الوطنية المصورة ومن أبرزها: التراث، الدين، العائلة، الأكل وكأنها أركان ودعائم هذه الوطنية الجديدة. يتكرر التصوير فى مبان أثرية كخلفية للمغنى البطل، ولطالما كان التاريخ المصرى جزءا من تصور الدولة الوطنية الحديثة، فى أحيان كان التركيز مثلا على الحقبة الفرعونية كمكون أساسى للوطن المصرى يفرقه عن غيره من الأوطان. الآن التمثيل التراثى مركز فى المساجد الأثرية وكأن مصر يتم تلخيصها فى القاهرة الإسلامية. وأغنية «سينا»، المنتجة بمناسبة عيد سيناء، لا يوجد بها أى مشهد يدل على سيناء بالذات (قد تكون أى صحراء فى أى مكان فى العالم) وأهل سيناء الذين أخذنا نلوك فى سيرتهم طوال عطلة نهاية الأسبوع لا يظهر أى منهم على شريط الأغنية، الأقرب للدعاية السياحية.
كما تتضمن كلمات تلك الأغانى ومشاهدها إشارات لمصر بصفتها مهد الديانات وموقع تعايش أتباعها (وإن كان موسى عليه السلام ووصاياه العشر غائبين حتى عن سيناء). وربما يكون ذلك التركيز على عناق الهلال والصليب والتصوير داخل كنائس ومساجد يشع منها النور الإيمانى ونور الشموع جديدا على الأغنية الوطنية، فيه إشارة صريحة إلى ثنائية عنصرى الأمة؛ الإسلام والمسيحية. بالطبع التنوع نفسه ليس جديدا ولكن إدماجه فى عناصر تصوير الأمة لم يحدث بنفس هذا التركيز منذ العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضى. وربما يكون ذلك انعكاسا للحظة التاريخية العالمية التى تعمل عكس الكيانات الكبيرة الجامعة وتعزز من شأن الكيانات المفتتة والهويات الأصغر. الاعتراف بالاختلاف والتنوع فى تركيبة الوطن الواحد شىء جميل ويعزز من قوة الوطن، هذه هى «السياسة الصحيحة» كما يذهب الأمريكيون. ولكن الواقع أكثر تعقيدا من تبادل التهانى فى الأعياد، وأكل الكعك، وأحضان شيخ الأزهر والبابا شنودة. هل نركز على تناغم عنصرى الأمة فى الوطن المتخيل لأننا نعلم أن فى الواقع موسيقى الوطن نشاز؟.. أم لأننا نتخيل أننا وطن متدين، يرضى ضمائرنا أن نتصور أننا فى جوهرنا كشعب متدينون جميعا على اختلاف دياناتنا؟.. هل نستهلك تديننا كما نستهلك وطنيتنا؟.. ربما لم يظهر ذلك بوضوح بقدر ما ظهر فى الأغنية العلامة «أكيد فى مصر» (إخراج أحمد المهدى) التى باتت خير تعبير عن المرحلة.
فى أغنية «سينا» يرتدى المغنون لونين من الأزياء: الأول أبيض ملائكى والثانى زيتونى كاكى. يشترك فى الأغنية الفريق الشبابى «واما» الذين سبق لهم تقديم أغان عاطفية وأغنية دينية ارتدوا فيها نفس القمصان البيضاء؛ الأبيض لون السلام كما أن «سينا» أصبحت أرض السلام. أما الكاكى فقد ظهر فى شكل لبس الكشافة، فهو ليس الكاكى العسكرى إذن، ليس تماما، ليس بالضبط. ربما لأن الأغنية كانت بمناسبة عيد سيناء واللحظة التاريخية الراهنة تستدعى التأكيد على تضحيات القوات المسلحة واستعدادها الدائم للمعركة كان من الضرورى الإيماء للجيش. جاء فريق التصميمات بالفكرة العبقرية: الكشافة كناية عن الجيش. والكشافة كما نعلم تأخذ أفكار الانضباط، والاستعداد، والخبرات المتنوعة من المؤسسات العسكرية، وتترك السلاح. الجيش الحقيقى يظهر فقط فى تمهيد الأغنية فى لقطات تسجيلية بالأبيض والأسود. هل يمكن أن نغفل الإشارة المضمرة، خاصة عندما نتذكر أن الجيش، كمؤسسة وكأفراد، لعب دورا محوريا — للأحسن أو للأسوأ —فى تشكيل الدولة المصرية الحديثة منذ القرن التاسع عشر؟
مصر المتخيلة عائلة واحدة كبيرة وسعيدة. النساء فيها دائما فى المطبخ، مملكة المرأة انكمشت فى مطبخ ومكتسبات القرن العشرين غسلها صابون المواعين، وعلى الجانب الآخر الرجال حراس الدين، يقرأون القرآن ويسبّحون. أفراد هذه العائلة المصورة ينتمون إلى الطبقة المتوسطة (بينما يتحدث المحللون عن انهيارها فى الواقع). هذه العائلة لديها وفرة من الطعام، دائما. لا يمكن أن نشاهد هذه المشاهد دون أن يعتصر القلب لأننا نعلم أن الواقع أمر بكثير، وأن الجوع ضيف دائم ثقيل الظل (شاهدوا إعلانات بنك الطعام). ولكن فى الأغانى المصورة مصر هى محشى وفراخ بانيه.... (من الملفت أن الأكل يلعب أيضا دورا محوريا فى سرديات الحنين إلى الوطن لدى المهاجرين واللاجئين العرب).
هناك علاقة دقيقة يصعب الإمساك بها بين الأغانى الوطنية المصورة والإعلانات. فالخطاب الإعلانى بطبيعته مُبسَّط ومُسطَّح، لا يسمح بالتنوع والرماديات، والخطابات الوطنية كذلك. من الملفت أن بعض مخرجى هذه الأغانى هم أيضا مخرجو إعلانات مثل أحمد المهدى أو هادى الباجورى، مخرج أغنيتى «سينا» و«لو كنا بنحبها» وأحد أشهر مخرجى الإعلانات (أعماله تضم إعلانات سيراميك، وبطاطس محمرة، ومياها غازية، والبنك الأهلى). بصريا هناك خط مشترك يجمع بين إعلان شهير لزيت قلى وعدد من هذه الأغانى الوطنية خاصة أغنية شيرين عبدالوهاب «مشربتش من نيلها؟» (الأخيرة من إخراج أحمد المهدى): نفس الإضاءة الدافئة، نفس البيوت الواسعة البرحة النظيفة التى تستدعى شققا فى الكوربة، نفس العائلات الكبيرة المُحِبة، نفس مائدة الطعام. بل نفس الموسيقى الرومانسية الهادئة (شتان بينها وبين المارشات العسكرية الصريحة التى كانت تصاحب الأغنية الوطنية قديما). يروجون لصورة الوطن الجديد بنفس عقلية الإعلانات الاستهلاكية، نفس الدغدغة للمشاعر والتلاعب بالعقل الباطن التى تجعلك ترفع سماعة التليفون لتطلب البقال وتشترى صابون غسيل لـ«ست الكل» لكى تحقق أمومتها. هم يبيعون لنا الوطن والفكر الجديد كما يبيعون لنا زيت القلى. الأساس ليس المضمون، أو بعبارة مارشال ماك لوهان الشهيرة: «الوسيلة هى الرسالة».
يذهب بنديكت أندرسون فى أطروحته المعروفة إلى أن الدول الوطنية قائمة على «جماعات متخيلة».
وفى دراسته عن نشأة الدول الوطنية فى أوروبا يذهب إلى أن انتشار الطباعة والكتابة باللغات المحلية، بدلا من اللاتينية، أدى إلى بناء تصورات فى خيال القراء لشبكات علاقات تجمعهم بأناس قد لا يعرفونهم ولكنهم يشتركون معهم فى اللغة والثقافة، وبالتالى فى «الوطن» ونشر هذه الأفكار فى نطاق جغرافى محدد. كذلك يمكننا الحديث عن تخيل وإعادة تخيل لـ«مصر» فى العصر الحديث لعبت فى إنتاجه الصحافة والرواية والمدرسة والجيش أدوارا أساسية. وأى مقارنة سريعة بين الأناشيد الوطنية فى حقبة مقاومة الاستعمار والأغانى التعبوية المنتجة فى الستينيات من قبل آلة الدولة الناصرية، وبين الأغانى الوطنية المعاصرة المنتجة من قبل التليفزيون المصرى تظهر كيف أننا الآن بصدد إعادة تخيل، إعادة تشكيل جديد لصورة هذا الوطن. وكأى صورة يتم إنتاجها، صورة مصر الجديدة ينتجها بعض الأفراد والجماعات لخدمة مصالح معينة. السؤال هو: ما عناصر هذه الصورة المتخيلة وهل تحظى على إجماع منّا، نحن الشعب المصرى المطالب باستهلاك الصورة وإعادة إنتاجها؟ ما العناصر المركز عليها فى الصورة والعناصر المهمشة والمقصية؟ السؤال ليس فقط هل هذه مصر فعلا بل أيضا: هل هذه مصر كما نريدها أن تكون؟