من ليماسول إلى لارناكا فى ثلاثين عامًا

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الخميس 3 مايو 2012 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

طرنا، قبل ثلاثين عاما، انطلاقا من عواصم ومدن عربية عديدة فى اتجاه جزيرة قبرص. لم نقرر أن تكون قبرص وجهتنا ومكان لقائنا إلا بعد أن اتصلنا بحكومات عربية عديدة نستأذنها فى عقد مؤتمر على أراضيها نناقش فيه أمور تتعلق بالديمقراطية وحقوق الإنسان. جاءت موافقات بشروط أهمها أن تشارك الدولة فى اختيار المشاركين بمعنى أن يكون لها حق رفض دخول من لا تراه مناسبا ومن لا تحبه، وألا يتحدث أعضاء المؤتمر إلى الصحف ووسائل الإعلام الأخرى. وجاء الرفض من غالبية الحكومات مصحوبا بتهديدات وتحذيرات. وعندما بلغ اليأس مداه من عقد المؤتمر على أرض عربية استقر رأى منظمى المؤتمر فى مركز دراسات الوحدة العربية على عقده بضاحية من ضواحى مدينة ليماسول الواقعة على الشاطئ الجنوبى لجزيرة قبرص.

 

ثلاثون عاما انقضت. خلال هذه الثلاثين عاما تدفق النفط بلا حساب ونشأت مدن تناطح السحاب واتسعت الفجوة فى الدخول، دخول الأمم ودخول الأفراد والطبقات. انتشرت الاحتجاجات وتهدمت مدن وقرى وتشرد آلاف جدد وسقط قتلى وجرحى واختفت وجوه حكمت بالحديد والكذب، وصمدت فى الحكم قيادات استفحلت فسادا وجهلا. واشتعلت الأمة بالغضب ثم بالثورة ومضت الشهور وكاد ينتصف العام الثانى ولم تأت الديمقراطية كما حلمت بها الشعوب وثارت لتحصل عليها. ما جاء منها وصل ناقصا أو مبتورا أو مشوها أو مشروطا.. جاءت مرحلة التأمل وتعددت الأسئلة. لماذا الثورات بطيئة، ولماذا أصاب الإحباط كثيرين منا، ولماذا نشبت هنا ولم تنشب هناك، ولماذا انحرف بعضها وخيمت الغيوم على بعض آخر وتكالب المنافقون على بعض ثالث، ولماذا سرق بعضها ومن سرقه. كان لا بد أن نجتمع ونطرح إجابات وجاءت المبادرة على أيدى مؤسسة الدراسات الفلسطينية.

 

عدنا نطير نحو قبرص لحضور اجتماع يركز على سؤال محدد. بدا السؤال للوهلة الأولى محرجا. بدا محرجا لنا نحن القادمين من دول مشتعلة بالثورة، أو منشغلة بالعملية الثورية الجارية فيها، ومحرجا للقادمين من فلسطين، ضفة وغزة أو من الشتات. كان سؤالا فلسطينيا بامتياز. ماذا فعلتم لنا بثوراتكم؟.

 

●●●

 

كانت الرحلة، منذ اللحظة التى لمست فيها عجلات الطائرة مجرى الهبوط فى مطار لارناكا وحتى لحظة وثوب طائرة العودة إلى الجو، رحلة مثيرة للأشجان والذكريات. ففى هذا المطار هبطت منذ أكثر من ثلاثين عاما طائرة عسكرية مصرية تقل فريقا من ضباط الصاعقة وجنودها مكلفين باختطاف «جماعة إرهابية فلسطينية» اغتالت الأستاذ يوسف السباعى أثناء وجوده فى قبرص. كان هدف الغارة إثبات توفر القدرة المصرية على غزو مطار أجنبى واختطاف أو اغتيال خصوم، تقليدا لغارة اسرائيلية على مطار عنتيبى فى أوغندا. ولاشك أن فشل الغارة والفضيحة الدولية التى لحقت بمصر كانت ثمنا باهظا للعشوائية التى كانت سمة القرارات السياسية المصرية فى ذلك الحين.

 

مرت صور حادث مطار لارنكا فى مخيلتى وأنا أنظر من شباك الطائرة على ساحة المطار واختفت لتحل محلها صور أقدم، رسخت منذ أن بدأت أقرأ فى التاريخ. قبرص واحدة من الدول التى ما إن تطأ أرضها قدماى ويتسرب هواؤها إلى صدرى إلا وأشعر بصفحات التاريخ وأحداثه تتدافع لتسلبنى اهتمامى. هنا فى هذا المكان وصل المسلمون فى منتصف القرن السابع الميلادى وبالتحديد فى عام 647 ميلادية بعد أن وقع الخليفة فى دمشق اتفاقية الهدنة مع جوستينيان الثانى لإقامة حكم مشترك استمر حتى عام 965 ميلادية، العام الذى استعاد فيه البيزنطيون الجزيرة لامبراطوريتهم. هنا مرت أيضا جيوش الإسكندر الأكبر قبل أن تنضم قبرص إلى مملكة البطالمة فى مصر. وهنا تولى الخطيب والأديب الرومانى الأشهر شيشيرون الحكم قنصلا عاما. ومن أروع ما خلفته قراءة تاريخ قبرص فى نفسى قصة قبرص هدية الحب التى أهداها مارك انطونيو إلى عشيقته كليوباترا ملكة مصر. ما أروع المعنى فى قصد العاشق!. كان القصد أن يهدى حبيبته كليوباترا الجزيرة التى أنجبت أفروديت إلهة الحب عند الإغريق.

 

لم يغب عن قادة الامبراطورية العثمانية الزاحفين على أوروبا الأهمية الاستراتيجية لهذه الجزيرة المتاخمة. فقد انتهزوا فرصة ضعف «البندقية» وفسادها وقاموا بغزو الجزيرة فى عام 1570 ودشنوا وضعا ديموغرافيا جديدا، بقى حتى وقتنا هذا فى شكل دولة ثنائية العقيدة والعرق واللغة وفى شكل دولة يتقاسمها الولاء لثقافة قارتين: آسيا وأوروبا.

 

مرت قرون خضعت خلالها كل من مصر وقبرص لهيمنة دكتاتورية عثمانية بغيضة ثم تحالفتا حلفا تاريخيا ضد سلطة استعمارية بريطانية ليست أقل نهبا وإذلالا وانتصرتا وحققتا الاستقلال إلى أن جاء يوم فى أوائل عام 1967 اسقط فيه الغرب حكم الأسقف مكاريوس رئيس الدولة القبرصية. يومها لم يخف جمال عبدالناصر اعتقاده بأنه سيكون الهدف التالى، ولم تمض شهور إلا وبدأت تصدق نبوءته.

 

●●●

 

أطل الفندق فى لارناكا، المنتجع الصغير الواقع على الشاطئ الشرقى للجزيرة على طريق ساحلى هادئ بالنهار صاخب بالليل. فاجأتنى مظاهر الرخاء وملامح البشر والسعادة على وجوه القبارصة الذين غصت بهم المطاعم والمقاهى. لم تكن هذه حال قبرص عندما زرت ليماسول وبعدها نيقوسيا ثم ليماسول مرات أخرى. استيقظت صباح الأحد على أصوات المئات. رحت أستطلع الأمر فوجدت نفسى وسط شيوخ وشباب، نساء ورجال وأطفال، يحتفلون فى الساحة الرئيسة. استمروا يغنون ويرقصون على الموسيقى اليونانية التقليدية والحديثة حتى غابت الشمس. كان الظن عندى وأنا أستعد للسفر من القاهرة إلى لارناكا أن مأساة اليورو الاقتصادية والاجتماعية لن تترك القبارصة ينعمون براحة أو رخاء بينما فى اليونان وإسبانيا والبرتغال الناس تتضور جوعا وحرمانا. لم أسمع خلال هذه الزيارة سوى شكوى واحدة، وكانت من مضيفة بأحد المطاعم. قالت: «لا شىء يعكر صفونا الاجتماعى سوى هذا السفه فى الإنفاق من جانب أثرياء روسيا والدول العربية، أقول هذا وأنا المستفيدة من هذا السفه».

 

●●●

 

امتدت جلسات المؤتمر فصارت ثمانى. وما زال السؤال واحدا وإن توارى أحيانا فى أشكال أخرى. أيها القادمون من دول الثورات، ماذا فعلت لنا ثوراتكم وماذا أنتم فاعلون بثوراتكم فى مستقبل الأيام. وكما كان السؤال واحدا وإن تنوعت صياغته، كانت الإجابة واحدة وإن متنوعة الصياغة ومتراوحة الحرج والخجل معا. «أيها القادمون من هدوء الاستقرار ونعيمه فى فلسطين حانت لحظة إدراك الحقيقة المرة، وهى أن ثورات العرب منشغلة عنكم بنفسها وقد يطول انشغالها، وشعوب العرب منشغلة، كل بثورته، إلى حد أنه يكاد لا يوجد شعب يملك الآن رفاهة الاهتمام بثورة غيره. نرجوكم، أيها القادمون من فلسطين بلاد الأمن المستتب، أن تلاحظوا أن الثورات العربية لم تجتمع فيما بينها ولم تنسق ولم تنشئ حلفا تدفع به اعتداءات أعدائها العرب وغير العرب. لم تشكل فيما بينها جبهة أو مجموعة أو تنظيما تتبادل من خلاله الدروس والعبر. الثورات العربية فى انتظاركم أنتم وغيركم مهما طال الوقت لتنتظموا جميعا كحبات فى عقد».

 

أيها القادمون من فلسطين، لا تنتظروا الثورات العربية، هى التى تنتظركم.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved