هل تتدخل الحكومات في أسواق المال؟
مدحت نافع
آخر تحديث:
الإثنين 2 مايو 2022 - 6:35 م
بتوقيت القاهرة
على عكس أسواق الصرف الأجنبى التى تتدخل البنوك المركزية فيها بشكل منتظم، فإن الحكومات تسعى جاهدة إلى عدم التدخل فى أسواق الأوراق المالية وتحديدا أسواق الأسهم، لأن التدخل يبث إشارات سلبية بعدم حرية التداول، وتعطيل آلية تحديد الأسعار وفقا لقوى العرض والطلب الطبيعية، ويحمل آثارا جانبية ضارة بالسوق.
عادة ما يكون التدخل الحكومى مبررا بالرغبة فى تحقيق استقرار الأسعار واستعادة ثقة المستثمرين. وفى حالات نادرة هناك بالفعل بعض الأسواق التى تمتلك صناديق دائمة لدعم استقرار أسعار الأوراق المالية فى الأسواق، وتكون تلك الصناديق معلنة فى بعض الحالات كما هو الوضع فى تايوان، وتكون مستترة فى حالات أخرى مثل السوق المصرية خلال بعض الفترات الزمنية الغابرة، فيما عرف بصندوق الشبح، وهو صندوق مجهول الهوية كان يعمل بأوامر سلطوية لضخ أموال فى الأسواق ودعم أسعار الأسهم عند الحاجة، لكن أحدا لم يستطع أن يثبت وجود ذلك الصندوق فى الواقع نظرا لطبيعته السرية، مما أثار تندر العاملين فى المجال، وقاموا بتشبيهه بمحطة المطار السرى التى يعرفها الجميع لكنها تظل سرية ولو بالاسم، وعلى أية حال فقد اختفى هذا الصندوق منذ أمد بعيد ولم يعد أحد يعرف مصيره.
خلال الاضطرابات الاقتصادية التى ضربت العالم على خلفية أزمة سوق التمويل العقارى فى الولايات المتحدة الأمريكية عام 2008، تم استغلال الفرص المتاحة للحكومات للتدخل فى أسواق الأوراق المالية بشكل رئيس فى البلدان الناشئة والنامية. وفى مارس 2010 قام كل من «خان» و«باتو» بنشر دراسة بعنوان ترجمته «هل يتعين على الحكومات التدخل مباشرة فى سوق الأوراق المالية أثناء الأزمة؟» وقد قاما خلالها بتحليل أثر تدخل الحكومة الروسية فى سوق الأوراق المالية بين سبتمبر وأكتوبر عام 2008 على أداء السوق. وكان الهدف من ذلك التدخل هو عكس الاتجاه الهبوطى المفاجئ والسريع فى أسعار الأوراق المالية المتداولة، عن طريق تغيير توقعات السوق وخلق قوى شرائية وهمية على الأسهم. وقد توصلت الدراسة باستخدام نماذج قياسية إلى نتيجة حاسمة مفادها ضرورة «عدم» التدخل الحكومى المباشر فى سوق الأوراق المالية أثناء الأزمات، لأن الآثار السلبية تكون أكبر وغير قابلة للتصحيح خاصة فى الأسواق الناشئة والضعيفة مثل روسيا.
وقد حاول الإجابة على ذات سؤال الدراسة المشار إليها كل من «بانوت» و«راجان» فى دراسة أخرى نشرتها جامعة شيكاغو فى مارس عام 2006 بعنوان ترجمته «تشريح لتدخل الحكومة فى أسهم المؤشرات: أثر الأسعار أم أثر المعلومات؟» وقد انصب تحليلهما على أزمة مالية أخرى لا تقل خطورة عن أزمة عام 2008 وهى أزمة النمور الآسيوية فى نهاية تسعينيات القرن الماضى.
• • •
انصب تحليل الدراسة على بورصة هونج كونج وهى إحدى أهم وأنشط البورصات فى آسيا والعالم، حيث تدخلت السلطة النقدية شراء فى أسهم مؤشر «هانج سنج» للأسهم Hang Seng خلال الفترة من 14 إلى 28 أغسطس عام 1998، وكان التدخل يهدف إلى ردع المضاربين والبائعين على المكشوف الذين يضغطون بشكل مصطنع على أسعار الأسهم.
على الفور ترتب على التدخل الحكومى عوائد غير طبيعية على محفظة من الأسهم مرجحة بذات آلية ترجيح المؤشر بلغت 24٪! ولم تتراجع تلك العوائد غير الطبيعية خلال الأسابيع التى أعقبت التدخل الحكومى، بما ينفى إلى حد ما شبهة الضغط السعرى المؤقت للتدخل الحكومى، لكنه لا ينفيه تماما إذ ربما لم تعاود الأسعار التراجع والتصحيح لأن المشتريات الحكومية الموجهة قد امتصت المعروض من الأسهم فتوقفت التقلبات السعرية مع توقف السيولة، أى كأن الحكومة قد أوقفت بشكل جزئى التعاملات فى الأسواق لحين استقرار الأوضاع والتعافى من الصدمة.
ويرى الباحثان أن هناك طبيعة خاصة لسوق هونج كونج لا تقبل التعميم على سائر الأسواق، حيث تتمتع الحكومة بمصداقية كبيرة نظرا لامتلاكها احتياطيات ضخمة مقارنة بحجم نشاط التداول فى سوق الأوراق المالية فى هونج كونج. تلك الإشارات الإيجابية لتدخل حكومة غنية وذات سمعة طيبة يرجح أن أثر المعلومات هو الذى دفع الأسواق إلى عدم الارتداد هبوطيا، بعد العبث غير المعتاد بآليات السوق من خلال الشراء الحكومى فى الأسهم.
يلاحظ فى الحالتين السابقتين أن التدخل الحكومى فى سوق الأوراق المالية تزامن مع أزمتين عالميتين ضاريتين، وأن ذلك التدخل كان محدودا بفترة زمنية قصيرة، وفى عدد محدود من الأسهم، وفى حالات خاصة عندما ترسخ يقين السلطات المعنية بأن أسعار الأوراق المالية غير معبرة عن الواقع، وأنها ضحية للتلاعبات أو الضغوط البيعية غير المبررة. أى أنه لو توافرت بالسوق عوامل داخلية لتدهور الأسعار، وكانت موجة التراجع سابقة على الأزمة المالية، فمن غير المنطقى أن تتدخل أية قوى فى السوق لتعديل الأسعار، بل يؤدى ذلك إلى أحد أمرين: إما أن ترتد الأسعار سريعا بعدما يتوقف ضخ الأموال (أو قل هدر الأموال)، وهذا دليل على وجود أسباب هيكلية للتراجع ليست بالضرورة متصلة بأساسيات الشركات المقيدة وأدائها المالى، بل ببنية السوق نفسها وقدرتها على جذب الاستثمار، وطبيعة الرقيب أو المنظم وغير ذلك من أسباب. الأمر الآخر هو ألا ترتد الأسعار فى الأجل القصير، ولكن تجمد حركة التداول نتيجة لكون المشتريات الحكومية أو مشتريات الجهات المملوكة للدولة تصنف باعتبارها استثمارا طويل الأجل، مما ينقص المعروض من الأوراق المالية فى السوق وتقل حركة التداول وتنعدم أى فرص للتصحيح السعرى، وكذلك أى فرص لنشاط السوق أو جذب الاستثمار الخاص المسئول!.
• • •
الأزمة فى سوق المال المصرية لا تتطلب تدخلا حكوميا لخلق طلب مصطنع على الأوراق المالية التى تباع بأبخس الأسعار، ولكنها تتطلب تدخلا سريعا لوقف نزيف الأسواق بعلاج المرض ذاته وليس العرض. فالبورصة المصرية ومن ورائها الأسواق المالية غير المصرفية تشهد تراجعا مستقرا (شبه منفصل عن الصدمات الخارجية) فى مؤشرات أدائها منذ عام 2011 وحتى كتابة هذه السطور، ولم تستجب إلى مختلف المحفزات الحكومية وفى مقدمتها تحرير سعر الصرف الأول فى نوفمبر 2016 أو الثانى الذى مازالت تبعاته تشكل الأسواق اليوم.
أسباب الأزمة يعرفها أهل الصناعة وقد قاموا بتشخيصها على نحو دقيق فى كثير من المقالات المنشورة والمداخلات ومواقع التواصل بل وأوراق السياسات التى تجد معامل ارتباط قوى (يرقى إلى السببية) بين تراجع الأداء العام فى مؤشرات أسواق المال والتأمين والتمويل العقارى من جهة وبين الجمود الإدارى فى قيادات المنظومة من جهة أخرى. ومن الدروس المستفادة من دراسة هونج كونج أهمية أثر المعلومات فى تصحيح الأسواق، والعائدات الكبيرة الفورية التى يمكن أن تجنيها استعادة الثقة فى الأسواق، لكن استعادة الثقة تختلف أدواتها من سوق لأخرى، ففى بعض الحالات ربما تكون استعادة الثقة فى سوق المال بتغيير قياداتها وضخ دماء جديدة فى شرايينها الإدارية والرقابية.
وإذا كانت الدعوة الرئاسية قد انطلقت منذ أيام وتحديدا أثناء فعاليات إفطار الأسرة المصرية، لتطالب الحكومة (وليس قيادات المنظومة) بضرورة إعداد رؤية لتطوير والنهوض بالبورصة المصرية، فإن تلك الرؤية يجب أن يتم إعدادها بمعزل عن المؤثرات والضجيج المصحوب بمشتريات المال العام فى أسهم شركات البورصة، لأن أزمة بورصتنا ليست عابرة أو مؤقتة، وليست ضحية صدمة عالمية، بل ربما تساعد الصدمات على انكشافها بشكل أكبر، خاصة وقد انفصلت عن كونها مرآة للاقتصاد الوطنى (وبالأحرى عن الاقتصاد العاملى) بعدما انخفضت نسبة رأس المال السوقى لأسهمها المقيدة عن 10% من الناتج المحلى الإجمالى المصرى!.
الدعوة الرئاسية تهدف إلى جذب الاستثمارات الخاصة المباشرة وغير المباشرة، وتوسيع ملكية القطاع الخاص المحلى والأجنبى فى الأصول، وذلك لن يتحقق بزيادة حصة المال العام فى شركات البورصة، حتى ولو كان التدخل قصير الأجل ولأهداف محددة أثبتت التجارب والدراسات أنها لن تؤتى ثمارها فى السوق المصرية على النحو المأمول.