وَهْم النص وقسوة المقدس
عزة كامل
آخر تحديث:
الأربعاء 2 يونيو 2010 - 9:59 ص
بتوقيت القاهرة
منذ سنوات أخذت عهدا على نفسى بألا أقرأ أو أستمع إلى الأخبار من خلال الراديو أو التليفزيون فى الصباح الباكر أو قبل الذهاب إلى النوم حتى لا أكدر مزاجى أو تهاجمنى الكوابيس، فالجرائد تحمل أخبارا غير سارة وقصصا تغرقنا فى الألم والسخط. وفى صباح يوم جمعة كسر أخى الأكبر هذه القاعدة. فقد جاء إلى المنزل فى الصباح الباكر وهو يحمل عددا من الجرائد من بينها جريدة «الشروق».
لاحظت أن وجهه متجهم، وقبل أن أوجه إليه السؤال، أخذ يفر صفحات «الشروق» ثم توقف عند الصفحة المعنونة «حكاية جريمة»، وقال: أقرئى هذه الجريمة البشعة. لفتت نظرى فى الناحية اليسرى من الصفحة صورة عروس رقيقة نحيفة تحمل فى يدها باقة ورد وفى أسفل الصفحة من الناحية اليمنى صورتها وهى ممسكة بألة الجيتار ثغرها يفتر عن ابتسامة بريئة، وفى الوسط صور للعروس فى موكب زفافها وبينهما صورة لإمرأة فى حالة حزن، والجريمة لخصتها «الشروق» فى أعلى الصفحة... «إيرين فتاة جميلة ــ صيدلانية، عثر على جثتها مقتولة داخل غرفة رقم 902 بفندق شهير بالإسكندرية ملابسها ممزقة وشعرها متناثر فى أرجاء الغرفة وغارقة فى دمائها،
قتلها زوجها المصرى الذى حصل على الجنسية الأمريكية قبل شهر بعد خطة أعدها مسبقا وسافر إلى أمريكا طليقا مستغلا عدم وجود اتفاقية بين مصر وأمريكا لتسليم المجرمين وترك جثتها يوما كاملا داخل الغرفة. وقبل صعوده للطائرة أبلغ إدارة الفندق بجريمته وأطلق ضحكاته قائلا: أنا أرمل ويمكننى الزواج فى أى مكان فى العالم، وسلام على القانون المصرى».
لم أستطع فى الليل أن أغفو ولو دقيقة واحدة، تداخلت صور.. ملابس العرس، موكب العرس والجيتار والجسد المسجى على أرضية حمام الفندق غارق فى دمائه. كان ليل شديد السواد، كثير القلق يحمل الكثير من التساؤلات، ما مصير الآلاف من المسيحين المصريين التى لا تريد الكنيسة أن تصرح لهم بالطلاق وما مصير 200 ألف آخرين أخذوا حكما من المحاكم المصرية بالطلاق ولكن الكنيسة ترفض أن تأذن لهم بالزواج مرة ثانية، وهم بذلك يواجهون وضعا شائكا ومعقدا ما بين محاكم تحكم بالطلاق وكنيسة لا تعترف بهذا الطلاق ولا تمنحهم ترخيصا بالزواج.
المصريون فى مصر يخضعون فى الأحوال الشخصية إلى القانون رقم 462 لسنة 55 الخاص بالأحوال الشخصية الذى أعده المجلس المحلى للأقباط عام 38 ومنذ عام 55 والمحاكم المصرية تحكم طبقا لهذا القانون الذى يستند إلى اللائحة التى تقر تسعة شروط لإتمام الطلاق، وحتى عام 1971 كان المسيحى يحصل على الطلاق من المحكمة ثم يحصل من الكنيسة على التصريح بالزواج مرة ثانية.
وبداية من عام 1971 صدر قرار بابوى رقم 7 لسنة 71 للمجلس الإكليركى ينص على عدم إصدار قرار زواج ثانٍ إلا إذا كان الحكم الصادر من المحاكم المصرية بالطلاق قد صدر بناء على سبب الزنى فقط، وقد جاء رد البابا شنودة قاطعا عندما أعلن بأنه لا توجد قوة فى الأرض تستطيع أن تلزم الكنيسة بأى شىء ضد تعاليم الإنجيل أو ضد الكنيسة، ولا يمكن للكنيسة أن توافق على تزويج المطلق إلا تبعا لتعاليم الإنجيل مهما يكون هناك من أحكام قضائية،
وأن أى كاهن فى الكنيسة القبطية سيزوج أحد دون تصريح المجلس الإكليركى دون التأكد أن الزواج الثانى يوافق تعاليم الإنجيل، سوف «أشلحه مهما كانت رتبته». وتتمسك الكنيسة بحرفية نصوص الإنجيل «من نظر إلى إمرأة واشتهاها فقد زنى بها فى قلبه»، «كل من طلق إمرأته إلا لعلة الزنى فهو يزنى».
وأن شريعة المسيحيين هى ما جاءت فى الإنجيل وما جاء فى أقوال الآباء والرسل وليس ما جاء فى لائحة 1938 التى تشترط تسعة شروط لإتمام الطلاق فى حين يشترط الإنجيل شرطا واحدا وهو علة الزنى. أليس هذا ما دفع «رزق لمعى نجيب» إلى قتل عروسه حتى يصبح أرملا.. يصبح حرا ليتم السماح له بالزواج مرة ثانية،
هذه الحرية التى جاءت على حساب إزهاق روح شابة بريئة، ورغم أن الكنيسة تتحدث كثيرا عن المواطنة فإن خطابها يتركز حول المأزق الطائفى بين المسلمين والمسيحين ومشاركة الأقباط فى الحياة العامة ونتفق معها فى ذلك، لكن غاب عن رجال الكنيسة أن المواطنة تعنى أيضا حق المواطنين والمواطنات المسيحيات فى تشكيل حياتهم الخاصة وحياتهم الزوجية وأن الكنيسة كمؤسسة دينية يجب أن تتفاعل مع التحولات المجتمعية وتستجيب لمقتضيات العصر.
و لا يجب على الدولة أن تتخلى عن مواطنيها وتترك رجال الدين يمارسون سلطتهم المطلقة باعتبارهم ينفردون بالحقيقة المطلقة ويتفردون بالقداسة، حيث جميع المواطنين سواء كانوا مسلمين أو أقباطا هم من مسئولية الدولة، لكن إلى الآن مازال هناك انفصال بين الدولة والمؤسسات الدينية من ناحية وبين المواطنين من ناحية أخرى.
وجدت الأديان لإسعاد البشر وليس لشقائهم، وكما يقول يسوع: «إن الناموس جعل من أجل الإنسان وليس الإنسان من أجل الناموس»، لذلك يجب عدم الالتزام بحرفية النص ولكن أن يؤخذ بروح النص، فتأويل النص الدينى دون اعتبار لطبيعة تلك النصوص تاريخيا وسياق ولغة ودلالة هو بحكم الخروج عن سلطة العقل، لذلك يجب إعادة النظر فى هذه المواقف التى هى بعيدة عن روح الكنيسة، ولا يجوز أن نغلق باب الخلاص أمام المواطنين من أجل أن يعيشوا حياة كريمة وحياة زوجية وعاطفية سعيدة يتمتعون بحق المواطنة التى ما هى إلا عمليات متواصلة من الخبرات الحياتية اليومية أكثر من كونها التقيد بحرفية النصوص.
إن كثيرا من المسيحين المنتظرين السماح لهم بالزواج الثانى يتحايلون على ذلك باللجوء إلى تغيير الملة أو تغيير الدين أو اللجوء إلى الخلع.. وإلى القتل كما حدث مع إيرين التى دفعت هى والآخرين ثمنا باهظا لم يستطع أن ينقذ حياتهم أو أرواحهم أو يجعلهم يتحسسون طريقا يقطفون من مخلبه قطرة ضوء، واستحالة حياتهم رمادا وجرحا دائما يختلط فيه الحزن بملح دمائهم، إيرين ذهبت وتركت ليلا يطوقنا بخيوط الدهشة ومخاض الموت ويتواطأ مع وهم النص وقسوة المقدس.