دروس من قصة حياة مغربية
عماد عبداللطيف
آخر تحديث:
الأحد 2 يونيو 2019 - 10:10 م
بتوقيت القاهرة
الحياة رحلة.. بعض البشر يعيشونها. وآخرون يعيشونها، ويكتبونها أيضًا. يكتب البشر قصص حياتهم؛ لأنهم يظنون أن فيها ما قد يكون ذا قيمة، أو مغزى. وبشكل شخصى، فإننى أظن أن فى قصة حياة كل إنسان ــ مهما كان ــ قيمة ومغزى وعظة، تجعل كتابتها مهمة وضرورية. لكن الفهم الشائع للسير الذاتية يربطها عادة بالبشر «ذوى الشأن والحيثية»، أى هؤلاء الذين حققوا «نجاحًا» كبيرًا فى حياتهم بالمعيار المتعارف عليه؛ مثل كبار السياسيين، ومشاهير الفنانين، والمرموقين من الشخصيات العامة. يكتب هؤلاء قصص حياتهم لأسباب متنوعة؛ فقد يكون غرضهم التأثير فى مجريات الأحداث الراهنة، أو نقل خبرة أو تجربة للأجيال القادمة، أو غيرها. وأظن أن قصص حياة نوابغ العلماء تحظى بأهمية خاصة بين السير الشخصية، وبخاصة فى عالمنا العربى.
تكتسب سير العلماء فى العالم العربى أهميتها من عوامل شتى، أهمها فى تقديرى هو الظروف الصعبة التى يعيشها الباحثون فى العالم العربى، والتى تجعل من نبوغ أحدهم أمرًا يستحق التأمل والفحص. وذلك على خلاف ظروف العلماء فى المجتمعات المتقدمة كلها تقريبًا، التى تجعل من فشل باحث ما أمرًا يستحق التأمل والفحص. ولذلك فإن التعرف على تجارب انتصرت على كل أسباب الإحباط والشلل التى تحيط بالباحثين الأصلاء أمر ضرورى جدًا، وبخاصة لشباب الباحثين.
هذا الوعى بأهمية السير الذاتية للعلماء النجباء جعلنى أحرص دومًا على قراءتها، والتعلم منها. ولدينا فى عالمنا العربى – لحسن الحظ – تراث كبير منها، منذ كتب طه حسين (الأيام) قبل نحو مائة عام، وصولا إلى سير عبدالرحمن بدوى، ومصطفى سويف، وغيرهم. وفى الحقيقة، فإن قراءة قصص حياة علمائنا العرب تُحقق الإمتاع والفائدة، لكنها لا تخلو من ألم. وسوف أعطى فى هذا المقال مثالا واحدًا لسيرة عالم عربى معاصر هو الدكتور محمد العمرى.
***
الدكتور محمد العمرى (1945) عالم مغربى متخصص فى دراسات البلاغة العربية، يُنظر إليه على أنه أحد أهم علماء البلاغة فى عالمنا العربى الراهن. لكن ليس هذا وحده هو سر الاهتمام بقصة حياته. فالدكتور العمرى عاش حياة ثرية على المستوى السياسى، والمجتمعى، وخاصة خلال عقدى السبعينيات والثمانينيات التى تُشكّل جزءًا مما يُعرف فى الأدبيات المغربية بـسنوات الجمر والرصاص. وهى سنوات عصيبة، لا تزال تشكل علامة غير مضيئة فى الذاكرة المغربية. نشر العمرى كتابين يحكيان قصة حياته؛ الأول (أشواق درعية)، حكى فيه شطرًا من الطفولة والصبا فى ريف المغرب القاسى. والثانى (زمن الطلبة والعسكر)، حكى فيه رحلته مع الجامعة، طالبًا، فأستاذًا، موزعًا بين مدن فاس، والدار البيضاء، والرباط، حيث انتهى به الحال أستاذًا فى جامعة محمد الخامس.
فى كتاب (زمن الطلبة والعسكر) يحكى العمرى بنظرة نقدية ثاقبة واقع الجامعة المغربية على مدار ثلاثين عامًا، وهو واقع يبدو شديد الشبه بالواقع العرب عمومًا فى جوانب شتى. وبسبب من الصدق والصراحة ــ الجارحة أحيانًا ــ يلمس المؤلف العصب العارى فى أغلب جامعاتنا العربية، ويضع يده على آفاتنا التى تجعلنا ــ للأسف ــ فى ذيل الأمم معرفيًا.
يحكى المؤلّف عن صراعه مع قوى الفساد المستشرى فى الجامعة المغربية، التى تولّى قيادتها أشخاص جعلوا كل غايتهم رضا من وضعوهم فوق الكراسى، مضحين بالمصالح الحقيقية للجامعة التى لا يمكن أن تتحقق بغير استقلال إرادتها. ويسرد وقائع شتى تُبيّن كيف تقاوم مجموعات متماسكة من الأساتذة الفاسدين أو الكسالى كل محاولة جادة للإصلاح، مستميتين فى إبقاء الوضع كما هو عليه. ويفضح المخازى التى تترتب على شيوع الوساطة، والمحسوبية، وغياب العدل، وانتهاك الحريات الأكاديمية، وضعف تكوين الأساتذة، وغياب الطموح العلمى.
تبدو سيرة (زمن الطلبة والعسكر) سجلا للمعاناة والصعوبات؛ لكنها كذلك سجل للتحدى والمقاومة. وبقدر ما تثير السير الذاتية ألمنا الداخلى حين نرى بطلها يعانى، ويكافح، دفاعًا عن قيمة، أو مبدأ، أو هدف نبيل، يغمرنا اطمئنان دائم بأنه سينتصر فى الختام. وليس أدل على انتصاره من كوننا نقرأ بالفعل سيرته الذاتية، التى تمثل إعلان تجاوز للمعاناة وتحطيم للقيود. وما بين معايشة المعاناة والفرح بالنجاح نستخلص العبرة والعظة.
***
هناك ثلاثة دروس أساسية استخلصتُها من قراءة سيرة (زمن الطلبة والعسكر)، للأستاذ محمد العمرى:
الدرس الأول: أن الباحث المخلص للمعرفة، المثابر، الدءوب، النزيه، المبدع، يصعب أن يهزمه شيء أو أحد. وكلما ركّز الباحث على تطوير عمله، ولم يستسلم لعوامل التشتت، أو الإحباط، أو الهدر، أصبح حلمه فى متناول يده؛ مهما كانت العوائق والعقبات. ومن ثمّ، فإن معوقات الحياة لا يمكن أن تهزم باحثًا أصيلا، بل إنها تزيده قوة وصلابة. أما الهزيمة فإنها لا تأتينا إلا من داخلنا.
الدرس الثانى: أن السلطة زائلة، والمعرفة باقية، والأيام دول. لقد قارن العمرى حاله بعد اكتمال مشروعه العلمى بحال كثير من قرنائه ممن غرتهم المكاسب السريعة، فتحالفوا مع قوى فساد، أو قمع، وركنوا إلى البلادة، والخنوع. فمرت بهم السنين بعد السنين، ثم انتبهوا بعد فوات الأوان، فوجدوا حياتهم خاوية على عروشها. أما من أفنى حياته فى خدمة العلم، ولم يخش إلا الحق، ولم يعمل إلا للخير، فقد نال ثمرة عمله مضاعفًا. ويبدو هذا الدرس ضروريًا بخاصة فى زمن الرداءة حين يعلو الفاسد، ويتنحى النزيه.
الدرس الثالث: أن قلة من الباحثين المخلصين، إذا شغفوا بالعلم، وتفانوا فى تجديده، وتعاونوا فى خدمته، يمكنهم تغيير شكل العلم، وشكل الحياة نفسها. وهو درس مهم جدًا للحالمين من الباحثين الذين يؤمنون بأن الباحث المعطاء النزيه يشبه واحة خضراء وسط صحراء الحياة، يلتجئ إليه خلال حياته مئات البشر، وربما ألوفهم، كى يتزودوا من علمه وأخلاقه بما يساعدهم على مواصلة المسير.