وقائع الحرب.. ويوميات التيه الأوروبي في 2023
عمرو حمزاوي
آخر تحديث:
الجمعة 2 يونيو 2023 - 8:50 م
بتوقيت القاهرة
على الرغم من أن الدول الأعضاء فى الاتحاد الأوروبى نجحت خلال السنوات الماضية فى تجاوز العديد من الأزمات الكبيرة والحفاظ على تماسك مؤسسات الاتحاد بعد الخروج البريطانى، إلا أنها تبدو اليوم شديدة الانقسام ومحدودة الفاعلية وهى تواجه حقائق وتداعيات الحرب الروسية ــ الأوكرانية وتتعامل مع التغيرات المتسارعة فى النظام العالمى.
فاندفاع حكومات ألمانيا وفرنسا وبولندا نحو تسليح الجيش الأوكرانى وتقديم المساعدات الاقتصادية والمالية لحكومة كييف وفرض عقوبات واسعة على روسيا، من جهة، يقابله من جهة أخرى، تحفظ حكومات دول كالمجر وسلوفاكيا ورومانيا وبلغاريا واليونان على سياسات المواجهة المفتوحة مع العملاق الروسى الذى لا يريدون حصاره ولا إنزال هزيمة عسكرية مذلة به ولا إخراجه من حسابات التعاون الأوروبى لاستعادة السلم والأمن القاريين.
وبينما لا تبدو السياسات الألمانية والفرنسية والبولندية إلا كسياسات تابعة لنهج الولايات المتحدة الأمريكية التى لا تريد إنهاء الحرب قبل إجبار الرئيس الروسى فلاديمير بوتين على سحب قواته من الأراضى الأوكرانية والتنازل عن مطالبه الحدودية (إن فى شمال شرق أوكرانيا أو فى شبه جزيرة القرم) وقبل فرض المزيد من توسع حلف الناتو ليحاصر روسيا من كافة الاتجاهات وقبل إثبات التفوق التكنولوجى للأسلحة الغربية على كل ما عداها (والرسالة هنا للصين وليس لروسيا فقط)، يدلل تحفظ الدول الأوروبية الأصغر على قلقها المشروع من تواصل الحرب دون أفق لحل سياسى وتسوية سلمية وقلقها أيضا من تداعيات الحرب الأمنية والاقتصادية الواسعة على القارة العجوز التى صارت مجددا مسرحا لموجات نزوح ولجوء كبيرة ولأزمة خانقة فيما خص ضمان إمدادات الطاقة والسيطرة على أسعارها. بل إن حكومات دول أوروبية أخرى كإيطاليا وإسبانيا والبرتغال، وهى عادة ما تتبع النهج الأمريكى أو تقترب إما من السياسات الألمانية أو الفرنسية، باتت، مع غياب أفق الحل السياسى للحرب، تبحث عن توافقات مباشرة مع روسيا تضمن بمقتضاها الحصول على إمدادات طاقة رخيصة نسبيا وتحمى اقتصاداتها من موجات التضخم التى يسببها ارتفاع أسعار الطاقة.
بل إن الانقسامات الأوروبية تتجاوز حدود الموقف من روسيا وأوكرانيا وسياسات التعامل مع التداعيات الناجمة عن حربهما إلى التوجهات المبدئية بشأن قضايا السلم والأمن العالميين والتدبير المستقبلى لاحتياجات الاتحاد الأوروبى من الطاقة التى لا تمتلك القارة العجوز بعيدا عن روسيا سوى القليل من مصادرها الطبيعية.
• • •
المفارقة الحقيقية هنا هى أن الدولتين الأكثر حرصا منذ ١٩٤٥ على تجنب الحروب والتصعيد العسكرى وسباقات التسلح والأكثر استثمارا فى دبلوماسية فض المنازعات والتسويات السلمية والحلول السياسية، وهما ألمانيا وفرنسا، لم يأتيا منذ اشتعال الحرب فى ربيع ٢٠٢٢ وإلى اليوم بمبادرة تفاوض واحدة أو خطة سلام أولية ولم يتعاملا سوى بعدم اهتمام بالغ مع أفكار السلام الصينية التى صاغتها دبلوماسية بكين فى خواتيم ٢٠٢٢ وحاول وزير الخارجية تشين جانج مؤخرا حشد الدعم لها فى جولة بين العواصم الأوروبية.
ويتواكب مع الانصراف المحبط لبرلين وباريس ومعهما وارسو عن جهود التسوية السلمية واندفاعهما نحو تقديم السلاح والمساعدات للجيش الأوكرانى والترويج الكارثى للرغبة الاستراتيجية الأمريكية فى إنزال هزيمة عسكرية بروسيا ليس لنتائجها سوى أن تكون كارثية على عموم القارة الأوروبية، يتواكب مع ذلك تواصل إنكار حكومات ألمانيا وفرنسا وبولندا لمسئولية حكومة كييف عن أعمال عدائية لم يعد يمكن معها مواصلة فرض ثنائية روسيا المعتدية وأوكرانيا الضحية على الرأى العام فى القارة العجوز والعالم. فعملاء الاستخبارات الأوكرانية، وفقا لما أكدته تقارير إعلامية مستقلة، كانوا وراء تفجير خط إمدادات الغاز الطبيعى «نورد ستريم ٢» ووراء اغتيالات لشخصيات روسية قريبة من بوتين أو مؤيدة لسياساته. والاعتداءات بالمسيرات على العاصمة موسكو وتفجيرات البنى التحتية فى شبه جزيرة القرم ومناطق أخرى هى أيضا من صنع الأجهزة الأوكرانية حتى وإن لم تعلن كييف مسئوليتها عنها.
مثل هذه العمليات يتجاهلها الألمان والفرنسيون والبولنديون وينكرون التقارير الإعلامية المستقلة التى تؤكدها (وهى تستند إلى مصادر استخباراتية غربية) لأنها تنسف ثنائية الخير الأوكرانى والشر الروسى التى يحشد على أساسها الدعم العسكرى والاقتصادى والمالى لحكومة كييف، ويستقبل وفقا لها الرئيس الأوكرانى فلوديمير زيلينسكى فى كبريات عواصم الاتحاد الأوروبى كبطل مغوار ومدافع صلد عن «القيم الأوروبية»!.
• • •
بفعل تداعيات الحرب، تتعمق الانقسامات الأوروبية فيما خص سياسات تأمين إمدادات طاقة غير مرتفعة الأسعار وهى لا غنى عنها لاقتصاديات ومجتمعات القارة العجوز التى تعتمد فى رخائها على الإنتاج الصناعى والزراعى المتطور والتكنولوجيات الحديثة وقطاعات الخدمات كثيفة استهلاك الطاقة.
قررت ألمانيا والدول الاسكندنافية الأعضاء فى الاتحاد، السويد والدنمارك، عدم التراجع عن قرار إغلاق المفاعلات النووية المنتجة للكهرباء ومواجهة الضربة المزدوجة التى تلقتها فى مجال أمن الطاقة بفعل العقوبات المفروضة على الغاز الروسى وارتفاعات الأسعار العالمية بتخصيص المزيد من الموارد المالية للحصول على ما يكفى من احتياجاتها من الطاقة على المدى القصير (من الخليج ومن شرق البحر المتوسط) والتوسع على المدى المتوسط والطويل فى الاستثمار فى مصادر الطاقة المتجددة داخل أوروبا وخارجها (خاصة فى جنوب البحر المتوسط مع ربط شبكات تسييل وتصدير الغاز وإنتاج الهيدروجين الأخضر وإنتاج الكهرباء فى بلدان كمصر والجزائر والمغرب مع الشبكات الأوروبية فى اليونان وقبرص وفى إيطاليا وفى إسبانيا).
فى المقابل، تتردد فرنسا، على سبيل المثال، فيما خص التخلى عن الطاقة النووية وينقلب ترددها فى سياسات بلدان كبولندا والمجر وغيرهما فى شرق ووسط أوروبا إلى تمسك صريح بالطاقة النووية ومواصلة تشغيل المفاعلات النووية التى كان الاتحاد السوفييتى السابق قد بناها فى تلك البلدان فى النصف الثانى من القرن العشرين. وتتبع حكومات إيطاليا وإسبانيا والبرتغال خليطا من سياسات الاستثمار فى مصادر الطاقة المتجددة وخطط التعاون مع جنوب المتوسط والبحث عن سبل الحصول على الغاز الروسى بأسعار لا تثقل كاهل موازناتها.
• • •
الحصيلة هى خلافات أوروبية لا تنتهى، وفاعلية غائبة للاتحاد فى مجال تأمين إمدادات الطاقة والاستثمار فيها، وقراءة استراتيجية خطيرة لمستقبل الطاقة فى القارة العجوز التى لا تملك على عكس الولايات المتحدة المكتفية ذاتيا رفاهية الاستغناء عن موارد روسيا أو تقليل اعتمادها على استيراد الطاقة من خارجها.
الحصيلة هى تيه أوروبى به الكثير من التبعية للسياسات الأمريكية، والكثير من الانقسام بشأن روسيا التى يتناسى البعض مركزيتها للسلم والأمن القارى والعالمى، والكثير من الاستخفاف بالتداعيات الخطيرة للصراع العسكرى وسباق التسلح الراهن، والكثير من الغموض الاستراتيجى حول قضايا مركزية كالطاقة بينما النظام العالمى المحيط بأوروبا يتغير سياسيا واقتصاديا وماليا وتجاريا تجاوبا مع صعود الصين كالقطب العالمى المنافس للولايات المتحدة على كافة الأصعدة والذى يراوح الأوروبيون بشأنه بين مقولات الصراع المتماشية مع موقف واشنطن وأفكار التعاون الذى يملكون واقعيا بديلا له.