فى تمجيـد ثـورات الجياع

وائل جمال
وائل جمال

آخر تحديث: الإثنين 2 يوليه 2012 - 8:45 ص بتوقيت القاهرة

«أصبح الفقراء ملاكا للثروة، وذلك الذى لم يكن يستطيع الحصول على صندل لقدميه صار صاحب ثروة. فى الحقيقة القلوب عنيفة والوباء عم الأرض، الدم فى كل مكان، الموت لم يعف بيتا وحتى أغطية الموميات تتكلم حتى قبل أن يقترب منها المرء»، هذه الكلمات من نص شعرى حملته بردية مصرية قديمة تسمى «معاتبات ايبوير». يتحدث مؤلفها الشاعر عن ثورة للعبيد والجياع قلبت الأوضاع على الفرعون. ويقول المؤرخون إنها قد تكون تنهيدة حزن بعد أن قامت الثورة أو تحذيرا استباقيا للفرعون الغافل قبيل حدوثها. لكن البردية تشترك مع عدد غير قليل من مثقفى وكتاب ومحللى وسياسيى نفس البلد بعد قرون وقرون، ممن يحذروننا من «ثورة للجياع» ستلتهم الأخضر واليابس فى مصر وتلقينا فريسة لـ«عوام» لا يعترفون بقيمة، ولا يرفعون لواء قضية عليا.

 

ولقد رُفعت أفكار مشابهة لما يرفع الآن، فى الماضى غير البعيد حينما أطلق أنور السادات على انتفاضة يناير 1977 اسم «انتفاضة الحرامية». وهى أفكار غالبا ما ترفع لتثبيت فكرة أن طبقات الحكم المسيطرة والنخب المتحالفة معها بصورة أو بأخرى هى وحدها حاملة الرقى والعلم والقيم الأخلاقية وبالطبع.. الحقيقة.

 

تصف عالمة المصريات ميريام ليشتهايم فى كتابها عن الأدب المصرى القديم بردية معاتبات ايبوير بأنها آخر وأطول وآخر التعبيرات عن تيمة «النظام فى مواجهة الفوضى»، وأكثرها مبالغة «وبالتالى أقلها نجاحا»، على حد تعبيرها. كتبت هذه البردية لتصف كارهة ثورة الفقراء العوام العبيد الجياع ممن أطاحوا بحكم بيبى الثانى نفر كا رع من الأسرة السادسة. وهو فرعون وصل إلى العرش وعمره 6 سنوات ويقدر الباحثون أنه حكم فترة بين 64 و94 عاما وأن أمه كانت الوصية عليه كما أن خاله الامير والوزير «جاو» كان صاحب اليد العليا فى تصريف أمور البلاد. ترهل حكم بيبى بطول فترة حكمه (طالما داعبنى الصديق الصحفى فؤاد منصور بالسابقة التاريخية فى إشارة لإمكانات امتداد حكم حسنى مبارك) وفقدت العاصمة السيطرة على الأقاليم. فعمت الفوضى ليذوق العمال والفلاحون الأمرين. وما أن واتتهم الفرصة للتعبير عما تجيش به صدورهم حتى قاموا بثورة اجتماعية عارمة رافضين كل مافى المجتمع من ظلم وفساد.

 

 

ألم تكن ثورة يناير ثورة «جوعى» العصر؟

 

لم يسمح فقراء مصر من منتجيها الذين طحنتهم آلة الاستغلال، التى احتكرت الثروة والكلمة والتعليم ثم التحدث الفاجر باسم الفضيلة، بأن يمتد حكم بيبى العصر الحديث لأكثر من 30 عاما ليفاجأوا بمحاولة من اليوم الأول لانتزاع ثورتهم الناجحة منهم. بدأت برديات القرن الحادى والعشرين بتوصيف هذه الثورة التى شارك فيها الملايين بتوصيفات تحتكر كل ما هو نبيل فيها لمن يحكمون والقيم التى تمثلهم والصور الذهنية التى تعبر عما يفضلونه لأنه لا يتعارض مع مصالحهم والتعبير الثقافى والشخصى عنها فى نمط الحياة. فوُصفت ثورتهم بثورة «الشباب» و«الفيس بوك»، وثورة «التحرير» وليس مصر وليس المحافظات، التى همشت ماكينة التنميط شكل ولهجة ومظهر وحياة وقيم الذين يعيشون فيها لحساب نمط حياة أغنياء الصفوة. (لاحظ هنا الحملة الكريهة التى شنها مثقفو الصفوة من مدعى الليبرالية على مظهر وتعليم «أم أحمد» زوجة الرئيس المنتخب).

 

والحقيقة أن الجذور الاقتصادية الاجتماعية للثورة المصرية واضحة لا شك فيها كما تبدت فى طموحات الثائرين الطامحين للعدالة الاجتماعية (استطلاعات الرأى العلمية المختلفة التى أجريت تؤكد هذا تماما). ولا يمكن الفصل بين التحولات الاقتصادية العميقة لاجتراف الثروة على حساب الأغلبية عن الأطر السياسية الأمنية الفجة التى حكمت مصر. ويظهر التماهى بين ماحدث فى مصر وبين سلسلة الثورات التى حدثت فى أمريكا اللاتينية فى أعقاب تطبيق نفس السياسات هناك (بفجوة زمنية عشر سنوات) أن ماحدث عندنا ليس استثنائيا بالمرة. بل إن انفجار الثورة العربية فى كل من مصر وتونس، وهما درتا تاج التحرير الاقتصادى والدولتان اللتان مضتا أكثر من غيرهما يؤكد هذا أيضا.

 

ليس هذا فقط بل إن انتصار هذه الثورة ونجاحها فى الإطاحة بمبارك ومحاصرة نظامه تمهيدا لمعركة جديدة لم يكن ليحدث لولا أن شارك فيها العوام المهمشون المبعدون أصحاب الحظ القليل «ممن كان يصعب عليهم الحصول على صندل لأقدامهم». وتكفى الإشارة لإضرابات عمال مصر فى كل مكان فى اليومين اللذين سبقا التنحى كضربة قصمت ظهر النظام وحسمت تناقضاته الداخلية. أو لدور شباب المناطق العشوائية فى دحر الأمن المركزى فى مواجهات الشوارع.

 

 

صناع الحق

 

يحكى المؤرخ والناقد المصرى لويس عوض فى كتابه المرجعى عن الثورة الفرنسية عمن أسماهم «أصحاب السراويل الملونة» كترجمة للكلمة الفرنسية Sans-Culotte وهى تعنى العريان أو الذى بلا سروال «وهى كلمة زراية قصد بها فى فترة الثورة الفرنسية أن تصف الطبقات الشعبية شديدة الفقر، أو الرعاع أو الغوغاء أو الدهماء بلغة صدقى باشا من عمال وصنايعية وأنفار أو باعة سريحة وكل من يكسب قوته بعرق جهده اليومى إن وجد عملا».

 

ويستطرد الكاتب الكبير قائلا إن «هذه الطبقات الفقيرة كانت كما رأينا مصدر رعب الطبقات المالكة الموسرة التى كانت تخشى على أموالها وأملاكها وربما أشخاصها، لو تحررت سياسيا ودخلت طرفا فى الصراع السياسى، وقد صدق حدسها»، كما يشير لويس عوض لإطاحتها بالنظام الملكى إثر تحالفها مع البرجوازية المتوسطة، أقرب الطبقات المستنيرة إليها، وإعلان الجمهورية، التى ألهمت العالم بشعارها الأسطورى الخارج من رحم الفقراء الجوعى من العامَّة: الحرية والإخاء والمساواة.

 

هذا الرعب «المبرر» لدى من يديرون ماكينات النهب الحديثة من احتمالات أن يتحرك عبيد الرزق فى زمن التكنولوجيا الباهرة، ليعيدوا الأمور إلى نصابها هو فى الحقيقة تصدى لمن تمثل قيم الحق والحرية والعدالة وكل القيم الرفيعة برنامجهم الوحيد ومصلحتهم الأكيدة. ويستخدم هؤلاء منهجا مزدوجا يجمع بين التخويف والترهيب من عنف ونهب (وكأننا لم نر منهم ومن هم على شاكلتهم نهبا منظما وعنفا مخططا يصيب الملايين بالجهل والفقر ويضمن إسكاتهم بالتعذيب والقمع؟) وبين إدعاء احتكار امتلاك الطريق للحياة الأفضل، فينزعون ممن يقوم البلد على أكتافهم ليحصد غيرهم الثمار، الثقة فى قدرتهم على امتلاك مشروعهم هم وصياغة مستقبلهم على أساسه.

 

إن التاريخ لا يتقدم أساسا بالرجال العظام وحدهم وإنما،تنفتح آفاقه لمن يملكون عيونا للنظر وآذانا للسمع وقلبا لمحبة القريب، فيفتحون بنضالهم وتجردهم وتضحياتهم، التى لا تخلف ضجيجا وراءها، باب الحرية. الجوعى هم ببساطة كما يقول لنا التاريخ صناع تقدم المجتمع البشرى نحو الحرية والديمقراطية.

 

 

ليه يا بنفسج؟

 

 

ينهى المخرج الراحل رضوان الكاشف فيلمه «ليه يا بنفسج» بمشهد يقوم فيه أبطاله الثلاثة من المهمشين الفقراء بالتدريب فى الصحراء على الزفة التى يبيعونها لأفراح جيرانهم «وهناك شىء من الحرارة المتعبة يخيّم على المكان، والأشخاص الثلاثة الذين يشغلون حيزا من ذلك الديكور الصحراوى الأجرد، ينظرون إلى اللامكان، ويعزفون على آلاتهم الموسيقية من دون أن يعبأوا بما إذا كان ثمة جمهور يستمع اليهم. والحقيقة ان ليس ثمة جمهور فى هذا المكان الصحراوى، ولو اقتربت الكاميرا من وجوه العازفين للاحظت تناقضا كبيرا بين التعابير التى تحملها هذه الوجوه وبين إيقاع العزف نفسه، فالعزف ينتمى إلى عالم مرح لا شك فيه، والى رغبة فى العيش ومواصلة الحياة رغم كل شىء. أما سمات الوجوه، فتنتمى إلى الديكور الصحراوى وخوائه وحرارته القاتلة»، كما يصفه الناقد إبراهيم العريس فى إشارة إلى أن الكاشف حمّل مشهده الأخير كل هذه الدلالة التى تربطه بعنوانه كل ذلك الحزن والأسى الذى ينبعث من مطلع أغنية صالح عبدالحى المعروفة: «ليه يا بنفسج بتبهج وأنت زهر حزين؟»

 

....المجد لثورات الجياع العوام

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved