ماركيز .. الزمار الذى لا يموت
سيد محمود
آخر تحديث:
الثلاثاء 2 يوليه 2024 - 6:40 م
بتوقيت القاهرة
(يموت الزمار وصوابعه بتلعب) مثل مصرى شائع تأكد لى وأنا أقرأ الرواية الأخيرة التى كتبها الروائى الكولومبى الراحل جابرييل جارسيا ماركيز ونشرت ترجمتها العربية قبل 3 أشهر بالتزامن مع لغات العالم وذلك تحت عنوان شاعرى جميل هو «موعدنا فى شهر آب (أغسطس)».
ومن يَعُدْ إلى الإنترنت يجد نقاشات كثيرة عن الرواية وظروف نشرها بعد سنوات من موت مؤلفها، وأهم ما فى تلك النقاشات أنها قد تمثل درسا مهما للناشرين ولورثة المؤلفين بشأن المعايير الواجب اعتمادها قبل الشروع فى نشر عمل يقرر صاحبه خلال حياته أنه غير جدير بتمثيله أو التعبير عما يرغب فى قوله تماما، إلا أن الورثة لديهم دائما حسابات أخرى؛ لذلك تمضى الأمور فى طريق آخر.
عاد ولدا ماركيز إلى كريستوبال بيرا، المحرر الذى عمل مع والدهما ويعلم تماما سر وصفته وانطلاقا من الشعور بالمسئولية عمل بيرا على مسودات النص برفقة مساعدة ماركيز ووجد أنه نص مكتمل ولم يعد أمامه سوى تعقّب إشارات الكاتب، والتحقّق من الاتّساق السردىّ للأعمار، وكذلك التسلسل الزمنىّ، والأسماء.
تظهر الترجمة العربية للرواية كل الجماليات التى عرفها القراء فى كتابة صاحب مائة عام من العزلة ؛فهى ساحرة وسلسة يعرف صاحبها طريقه إلى قلب القارئ دون أى نوع من الأكروبات أو الحيل التجريبية فالمهارة الرئيسية التى يملكها تتعلق بقدراته الفذة فى السرد ونحت الشخصيات التى يختارها منتقلا بها من الذاكرة إلى الواقع .
والترجمة أنجزها مترجم جديد أقرأ اسمه للمرة الأولى هو وضاح محمود، كما أن الرواية ظهرت فى طبعة مصرية هى باكورة التعاون بين دار التنوير اللبنانية ومكتبة تنمية وأثبتت صحة ما توقعه كريستوبال بيرا من أن الرواية «تطوى صفحات سجل ماركيز العظيم وتختمها بمشبك من الذهب».
على خلاف ما هو متوقع لا تنتمى الرواية إلى الواقعية السحرية؛ لكنها تغوص فى عالم واقعى بامتياز يأتى خاليا تماما من الفانتازيا والحالة العجائبية التى نعرفها، كما لا تفتقد الطرافة والقدرة على بناء المفارقة وحفز المخيلة.
بالإضافة إلى أن موضوعها الرئيس متعلق بالضعف الإنسانى وما قد ينتج عنه من مراجعة أو مواجهة صريحة مع النفس تحدث انقلابا فى قلب وعقل صاحبها.
يتورط قارئ الرواية تماما فى الحياة التى تعيشها بطلتها (آنا مجدلينا باخ)، وهى امرأة تعيش أزمة منتصَف العمر، بعد حياة زوجيّة سعيدة عاشتها لأكثر من 27 عامًا مع زوجها الذى تقضى معه أوقاتا ممتعة وليس لديها أى سبب للهروب من عالمها الذى بنته بسعادة غامرة.
تعيش آنا حياتها بهدوء وتنفذ وصية أمها التى طلبت منها قبل أن تموت أن تدفنها فى جزيرة مجاورة وأن تعود إلى قبرها فى 16 آب من كل عام لزيارتها وبعد أن تراجع حماس الزواج لمرافقتها، ترغب فى إحدى المرات أن تصبح امرأة مغامرة لليلة واحدة وتقرر أن تقضى ليلتها فى الفراش مع رجل التقطته من بار الفندق الذى تنزل فيه.
قرّرت آنا فى لحظة ما من عمرها استكشاف حياتها الجنسيّة وحرّيّتها الفرديّة وتفعل ما كانت ترغب فيه لكنها تفاجأ عندما تصحو من النوم بأن شريكها الذى لا تعرفه ترك لها 20 دولارا إلى جوار الكتاب الذى كانت تقرؤه وعاملها كعاهرة حقيقية وهذا ما أرقها وأفسد حياتها بعد ذلك لكنه فى المقابل صحح مسارها وأخذها فى اتجاه الحياة التى ترغب فيها.
انتبهت (آنا) إلى الفراغ الذى عانت منه وصارت أكثر رغبة فى ملئه، كما أنها واجهت للمرة الأولى شعورها بالضعف أمام رغباتها واستسلمت للهاجس الذى قادها إلى تكرار التجربة فى كل عام تأتى فيه لزيارة القبر، فأصبح الذهاب إلى طقس مرتبط بالموت يماثل تماما استعادتها لمعنى الحياة وهى رمزية شائعة فى كتابات ماركيز.
تنتهى الرواية و(آنا) تعود برفات أمها إلى بيت الزوج بعد أن عاشت ليلة استثنائية مع رفيق آخر فى فراشها، هو نفسه رفيق المغامرة الأولى لكنها اكتشفت أن لأمها تاريخا آخرا كانت تجهله يتعلق بقصة حب عاشتها فى تلك الجزيرة.
قاومت فى المرات الأربع التى تكررت فيها نفس التجربة الشعور بالذنب، كما أحبت قدرتها على إغواء الرجال فى منتصف العمر وأظهرت اعتزازا بأنوثتها قبل أن ينطفئ وهجها تماما وشعرت بكثير من الفخر لأنها لم تزل قادرة على انتزاع رضا زوجها الذى كان على علاقة بنساء أخريات وأصرت على أن تحظى باعتراف منه حول المرات التى رافق فيها نساء أخريات ربما لأنها أرادت أن تتسامح مع فكرة الخيانة التى وصمتها إلى الأبد .
أكثر ما يثير الاهتمام فى الرواية الطريقة التى تعامل بها ماركيز مع الجنس وهو موضوع يشيع فى رواياته لكنه كان يأتى دائما مشفوعا بالكثير من الأسى والممارسات الصاخبة التى تحول الأجساد المنتشية بقدراتها إلى طبول، لكنه فى الرواية الجديدة جعل من الجسد مثل آلة بيانو ناعمة فى حين أصبحت الرغبات مثل نغمات تعلو وتهبط وتخمد حتى تشيع فيها نغمة الصمت.
وبالمثل تلعب الموسيقى دورا أساسيا فى النص؛ فالأبطال يأتون من فضاءات موسيقية، وتبدو أجسادهم محكومة بإيقاع متواتر مرسوم بعناية، كما يستدعى ماركيز فى أرشيفه رجال الدين ويضعهم فى الصورة التى يفضلها دائما نازعا عن وجوههم ما يعتقد أنها أقنعة تخفى التناقضات.
يصعب تماما التسليم بما أشار إليه رودريغو، ابن ماركيز، حين وصف الرواية بأنّها رواية نسويّة، إلا أن الأمر المؤكد أن جمالها لا يقاوم، فهى مثل جوهرة أصلية لا يمكن تفادى ما فيها من أصالة ومن قدرة على إشاعة الضوء.