عبدالناصر.. والمراحل الثلاث
ناجح إبراهيم
آخر تحديث:
الجمعة 2 أغسطس 2019 - 9:10 م
بتوقيت القاهرة
تمر هذه الأيام ذكرى ثورة 23 يوليو التى كانت لها تأثيرات كبيرة على مصر والوطن العربى بل والعالم بعضها إيجابى وبعضها سلبى، واختلف الناس حولها اختلافا كبيرا وكذلك اختلفوا فى شخصية الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، وما زال هذا الاختلاف محتدما بين محبيه الذين يكادون يقدسونه ويرفعونه إلى عنان السماء، وبين منتقديه وكارهيه الذين يكادون أن يخسفوا بحسناته الأرض ويطمسوا كل حسناته، وقد مررت فى حياتى الصعبة بثلاث مراحل فى معرفة الرئيس ناصر والحكم عليه وعلى عصره، ولعلى أسوق هذه المراحل للقارئ:
المرحلة الأولى: كنت فى صغرى متيما مثل جيلى بناصر وكنت أراه فى سنوات شبابى الأولى زعيما مثاليا اتخذه معظم الشباب من جيلى أسوة وقدوة وأنا منهم، فطالما كتبنا موضوعات الإنشاء فى المدرسة عن إنجازاته.. مرات عن السد العالى وأخرى عن مصنع الحديد والصلب وغيرها، لم نسمع يوما نقدا له فقد كان ذلك محرما ومجرما.
المرحلة الثانية: بعدما دخلت تيار الحركة الإسلامية فى شبابى فوجدت أن كل الخطباء الذين سمعتهم أهالوا التراب عليه ولم يذكروا له حسنة واحدة وركزوا على سلبياته وانكساراته وهزائمه، فتحولت من الإعجاب به إلى انتقاده بشدة والتركيز على سلبياته.
المرحلة الثالثة: حينما كبرت ونضجت ودرست وتعمقت فى دراسة التاريخ المصرى الحديث ودرست قصة هزيمة يونيه سنة 1967 التى عشت طفولتى فيها ورأيت كم الشهداء من شارعنا وأقاربنا، وفى مرحلة النضج هذه رأيت أن عبدالناصر وقع فى أخطاء سياسية واقتصادية وعسكرية جسيمة رغم وطنيته الجارفة ورغم زهده وتعففه عن المال الحرام، ودرست معها إيجابياته ووضعت نفسى فى الظروف التاريخية والسياسية التى عاشها والزمان الذى قام فيه بالثورة فأنصفت الرجل من نفسى وقلت له إيجابياته وسلبياته وخيره وشره وبذله وقصوره كشأن كل الحكام الذين يحكمون عادة فى ظروف صعبة عصيبة، وقلت لنفسى: إن أسلم طريق لمعرفة الناس عامة والحكام خاصة هو ليس طريق الأسود والأبيض والملائكة والشياطين فهم ليسوا بملائكة وليسوا بشياطين كذلك.
وفى كل عام تمر ذكرى الثورة يتمنى بعض حوارييها أن تعود مصر مرة أخرى إلى عصرها وزمانها، ويتمنى كارهوها أن تعود الملكية مرة أخرى، وهذا والله من الأوهام رغم صعوبة هذا الزمان والأحوال على مصر.
وأقول لمن يريد عودة الناصرية إن الصين حينما أرادت أن تبنى نهضتها الحديثة لم يقل أحد من رواد نهضتها: نعود إلى عصر ماوتسى تونج، لقد احترموا وطنيته ولكنهم لم يكرروا أخطاءه.
ولو تمسك حكام الصين اليوم بتراث ماو لكانت بلادهم نموذجا للفقر والاستبداد والدماء والكراهية والإقصاء والسجون والتعذيب ولكنهم تعاملوا مع ماو كصفحة من تاريخهم، فلم يشتموه أو يسيئوا إليه أو يهيلوا التراب عليه ولكنهم لم يقدسوه أو يتحولوا عبيدا للكتاب الأحمر.
لقد رأوا أن صفحته قد طويت، وأن اللحاق بقطار التقدم يحتاج مع الوطنية وتحرير القرار الوطنى إلى الحريات العامة والديمقراطية وتداول السلطة ومنع الاستبداد والاقتصاد الحر الذى لا يعرف الاحتكار أو الرشوة أو الفساد.
وعندما فعلوا ذلك وانفتحوا على العالم كله وأعطوا الإنسان الصينى حرياته حينها استطاعوا أن يتجاوزوا الاقتصاد الألمانى سنة 2007 واليابانى سنة 2008 ومن المحتمل أن يتجاوزا الاقتصاد الأمريكى سنة 2030.
أما بوتين وروسيا فلم تستطع أن تصنع ما صنعت الصين أو حتى كوريا الجنوبية.
أما فى مصرنا فهناك تيارات تتسمى بأسماء الحكام فى سابقة فريدة، حتى هيكل نفسه المتبتل فى محراب عبدالناصر وصانع أفكاره الحقيقى والذى صاغها له قد قرر بشجاعة أنه ليس هناك ناصرية، فكل حاكم مشروع فقط وليس نظرية سياسية دائمة، أو مذهب فى الحكم، وكل مشروع له إيجابياته وسلبياته.. له إنجازاته وإخفاقاته.
ونقول أيضا للذين يريدون إعادة أيام الملكية أن معظم الشعب كان فقيرا محتاجا لا يجد الحذاء فى عهد الملك رغم غنى مصر وقتها، وأن الملك وحده كان يملك 124 ألف فدان وحده مع الإقرار بأن الملكية الدستورية من أفضل النظم فضلا عن التبعية الكاملة للاستعمار البريطانى وقتها.
ونحن إذا أردنا النهضة الحقيقية فعلينا أن ننهج هذا النهج، نقدر وطنية الرئيس ناصر وإخلاصه ولكن لا يمكن أن تعود مصر إلى ما كان فى عهده.
لقد كان عبدالناصر وطنيا حتى النخاع ولكنه كان محبا للانفراد بالحكم دون غيره فأمم كل شىء، أمم الاقتصاد، وأمم الإعلام، وأمم السياسة، وأمم الصحافة، وأمم الكلمة وأمم الإنسان المصرى لصالحه وفكرته وشخصه.
وكان يمكنه أن ينجح فى أى انتخابات حقيقية ولكنه آثر ألا تكون هناك انتخابات على الإطلاق مهما كان سيكتسحها، عبدالناصر أقصى الجميع بلا استثناء، كان يريد أن يبدأ تاريخ مصر منه وحده، ألغى سعد زغلول والنحاس، وألغى محمد نجيب نفسه، حتى طمس صور الملك فاروق من الأفلام، فكرة إلغاء التاريخ غير منطقية، وإقصاء الآخر من الحاضر هى ضرب من الخيال.
عبدالناصر كانت له حسنات كثيرة ولكن تقديسه أو تحويل هزيمة يونيه إلى نصر أو تحويل نصر أكتوبر إلى هزيمة ليس من العقل فى شىء، وكذلك تدنيس عبدالناصر وإهالة التراب عليه وبخسه حسناته ليس من العقل.
وفى كل البلاد غير مصر لا يتم تأليه الحاكم أو تقديس حكمه فى حياته أو بعد موته أو تنجيسه وتبخيسه ولكننا فقط دون الأمم نقدس الحاكمو نؤلهه أو نبخسه وننجسه وندور دوما بين التطرفين.
إن الحكمة تقتضى أن نعدل مع الناس عامة والحكام خاصة وأن نأخذ منهم أحسن ما عندهم، ونستغفر الله لهم فيما سوى ذلك.
حسنات عبدالناصر كثيرة أهمها استقلال القرار الوطنى وإجلاء بريطانيا وتعففه وأسرته عن مال الدولة، مساعدته للدولة العربية والإسلامية فى التحرر من الاستعمار، صموده بعد هزيمة يونيه وتصحيحه لأخطائها وإعادة بنائه للجيش حتى صار من أحسن الجيوش ومنظومات العدالة الاجتماعية التى أقامها، والثورة الصناعية التى بدأها وتوسعه فى التعليم والصحة بشكل غير مسبوق.
ولكن أخطاءه كثيرة أيضا وأخطرها الديكتاتورية والاستبداد، وإلغاء تداول السلطة وبروز الاعتقال والسجن السياسى فى عصره بما لم يحدث فى تاريخ مصر، وتأميم الصحافة والاقتصاد وإلغاء الحرية العامة، وكذلك مسئوليته الكاملة عن هزيمة يونيه سنة 1967 وتسليمه الجيش المصرى العظيم إلى صديقه الرائد عبدالحكيم عامر وترقيته لأول مرة فى تاريخ مصر استثنائيا سبع رتب كاملة، إلا أن إعادة بناء الجيش المصرى وعدم الانهزام أمام الهزيمة كان من أبرز حسنات عبدالناصر وأعظم خواتيم عمله التى لقى الله بها.
ومن سلبياته التأميم وإن كان من حسناته أنه أعطاها لمؤسسات الدولة وليس مثل الذى باع القطاع العام بثمن بخس ليذهب ثمنه إلى جيوب القطط السمان.
والآن علينا أن نستلهم الجيد من تاريخنا والأفضل من تجارب حكامنا ونأخذ من كل منهم أفضل ما عندهم، وألا نهيل التراب على تاريخهم أو نبخسهم حقهم أو يجعلهم البعض آلهة أو نصف آلهة أو يحولهم البعض إلى شياطين مردة، الحكام بشر يريدون خدمة أوطانهم وكل منهم له تجربته الخاصة بمزاياها وعيوبها.
رحم الله عبدالناصر وكل من سعى لخدمة البلاد والعباد رحمة واسعة وغفر الله لهم ما وقع منهم من هنات وأخطاء.