الناس والصيف
تمارا الرفاعي
آخر تحديث:
الأربعاء 2 أغسطس 2023 - 7:30 م
بتوقيت القاهرة
أتابع منذ شهر نقاشات حول المصيف والشاطئ وكيف تغير مفهوم الإجازة الصيفية فى مصر عبر السنوات وعبر الطبقات الاجتماعية. وكشخص ارتبط بمصر فى السنوات الأخيرة، فأنا ما زلت دخيلة على عدد من الثوابت وما زلت أحاول أن أفهم أسباب الخلاف، على خلفية أفكار تكونت عندى من خلال الأفلام، خصوصا القديمة منها، وأخبار الناس والفنانين كما كانت تصلنى حين كنت مراهقة فى دمشق فى مجلات لم تعد تصدر أصلا على ما أظن.
• • •
الصيف والمصيف ملأت الأفلام القديمة، وكتاب «البنات والصيف» للكاتب الكبير إحسان عبدالقدوس ربما كان من أكثر الكتب جذبا لأجيال من المراهقات فى بداية اكتشافهن للعلاقات والشباب وأولى قصص الإعجاب والحب، وقد تحول هو الآخر لفيلم.
• • •
أهل دمشق عادة ما كانوا يهربون من حر الصيف إلى الجبل والمناطق المرتفعة القريبة من المدينة كالزبدانى وبلودان، حيث الهواء البارد والفاكهة السكرية وليالى نقضيها تحت ضوء القمر نجلس خارج البيوت يأكلنا الناموس ونتجاهل اللسعات بينما ينقل نسيم الليل كلماتنا إلى آخرين يجلسون على شرفاتهم أيضا.
• • •
كنت خلال صيف دمشق أتخيل صيف المصريين كما رأيته فى الأفلام: شماسى وباعة متجولون وقصص حب تحاول أن تبقى متخفية تحت غطاء ما هو مقبول اجتماعيا، ومجموعات تتنزه بعد الظهر وتأكل «جيلاتى»، وهى كلمة استخدمها بعض السوريين فيما بعد تماشيا مع ما كنا نراه فى الأفلام المصرية.
• • •
اليوم، أتابع نقاشات حامية حول الساحل الشمالى فى مصر، من أهمها هو إعادة تعريف الصيف والمصيف وشرح دقيق لما كان عليه المصيف قبل دخول مفهوم المنتجعات الخاصة وتأثيرها على ساحل قد يكون من أجمل سواحل البحر الأبيض المتوسط. لذا فكما كل صيف فى السنوات الأخيرة، يذكرنا البعض بالمصيف كما عكسته الأفلام حتى سبعينيات القرن الماضى على ما أظن، معظمه متمثلا بشواطئ الإسكندرية ورأس البر، بحسب الطبقة الاجتماعية والإمكانيات المادية، فنعيد قراءة شهادات دافئة عن «لمة العيلة» وتحضير وجبة الفطور ثم التأكيد على أن النزهة عند المغرب هى أكثر النشاطات ترفيها، على عكس ما يتم تداوله اليوم من تفاصيل عن سهرات وحفلات يصر الكثيرون أنها لم تكن ضمن البرنامج الصيفى حين كان الصيف مختلفا منذ عقود.
• • •
لكنى كدخيلة على هذه الإجازات فقد استوقفنى تناقض بين صورة كونتها أثناء سنوات المراهقة و«البنات والصيف» مع ما رأيته فى زياراتى القليلة لأصدقاء فى بيوتهم الساحلية فى مصر، رغم محاولة البعض أن ينقلوا إلى داخل «القرية السياحية» طقوس أهاليهم ومن سبقهم من أجيال والتى كانت طقوسا تمارس على شاطئ وكورنيش الإسكندرية. بالإضافة طبعا لسجال يدور بشدة هذه السنة حول الشاطئ «الطيب» والشاطئ «الشرير»، وهى تسميات أطلقها بعض المؤثرين منذ سنة أو أكثر بعد أن امتلأت صفحات التواصل الاجتماعى بأخبار قد لا تصدق عن أسعار البيوت والترفيه والطعام فى بعض مناطق الساحل الشمالى، مرفقة طبعا بقصص عن ممارسات يراها الكثيرون أنها خارجة عن الثقافة المجتمعية المصرية.
• • •
يستوقفنى دوما مفهوم الثقافة المجتمعية وما يراه البعض أنه خارج تلك الثقافة، وأظن أن مصدر استهجان الكثيرين الأساسى هو خروج الممارسات إلى الفضاء العام عبر منصات التواصل الاجتماعى، فأنا لا أرى اختلافا بين الكثير من الممارسات الخارجة عن العرف وبين ما قرأت عنه فى الكتب والروايات والدراسات الاجتماعية القديمة فى مصر والعالم العربى وفى أوروبا بصراحة، لا شىء جديد سوى أن ما يثير الاستهجان وأحيانا يثير حفيظة شرائح مجتمعية كاملة بات الآن مادة متوفرة علنا، تصل إلى من هو خارج الدوائر الخاصة.
• • •
أظن أن المصيف، كما كثير مما كان يميز مصر، تغير مع تغييرات كثيرة حدثت على مدى عقود وليس بشكل مفاجئ. لست هنا بصدد عرض ما طال الاقتصاد والمجتمع والسياسة من تغييرات فقد كتب الكثيرون ممن هم أكثر قربا وتخصصا منى حول هذه المواضيع وتأثيرها على الثقافة المجتمعية المتعلقة باستخدام الأماكن العامة كالشاطئ (أو البلاج كما كانت تسمى من قبل)، ولن أدخل فى متاهات حول تغييرات طالت المساحة الفردية والممارسات الدينية والتى أثرت هى الأخرى على علاقة الناس بالبحر والشاطئ والسباحة، فهذا حديث لا ينتهى أصلا فى مصر وخارجها.
• • •
من مكانى القريب ــ البعيد كمراقبة لبلد صرت أشعر أننى زرعت فيه بعضا من جذورى، أعترف أننى لا أنتمى لثقافة الساحل الشمالى عموما، وأننى لم أنجذب لفكرة فتح بيت ضمن مجموعة سكنية من حولها جدار يفصلها عن مجموعات سكنية أخرى. أنا أتفهم أن هذا الفصل قد يكون مريحا لمن اختاروا أن يمضوا أسابيع الصيف قرب البحر ضمن فئات مجتمعية تشبههم فيتجنبون اختلافات قد تؤثر على استرخائهم وراحة بالهم، لا أملك أصلا حق الحكم على قرارات الناس فيما يتعلق بطريقة تمضيتهم لإجازاتهم. لكنى، وكما هو حالى مع علاقتى بمصر، أتمنى لو كنت عشت فيها قبل نصف قرن.