لماذا هذا الولع العامي بالماضي؟

صحافة عربية
صحافة عربية

آخر تحديث: الجمعة 2 أغسطس 2024 - 7:35 م بتوقيت القاهرة

يعيش الإنسان فى الآن، ويفكر بالمستقبل الذى بدوره يصبح آنًا بعد تحققه والآن الذى عاشه يصبح ماضيًا. وهكذا هى سيرورة الزمن البشرى.
واستنّ العلم الإنسانى علمًا خاصًا فى التاريخ الماضى بدافع المعرفة والقبض على سنن تحولاته وتغيراته وتطوراته. عند هذا الحد فنحن فى حقل العقلانية الواقعية.
لكننا نشهد هذه الأيام، وبخاصة بعد تطور وسائل التواصل الإلكترونية ولعًا بالماضى يصل حد الولع المرضى، وهو ولع لا يمت إلى علم التاريخ، ولا يعود إلى علماء التاريخ.
فلقد ضج النت: «فيسبوك»، والمواقع الإلكترونية و«إنستجرام» بصراعات حول الماضى وقصصه، صراعات حول التاريخ القديم منذ ما قبل الميلاد والتاريخ العربى الإسلامى على وجه الخصوص. وهى صراعات واختلافات لا علاقة لها بالمعرفة التاريخية بل تعكس وعيًا نكوصيًا لا قيمة له فى صناعة الحاضر أو المستقبل.
وأعود للسؤال: لماذا هذا الولع بالماضى فى عالمنا العربى من قبل أقلام لا تنتمى إلى علم التاريخ وعلى هذا النحو المرضى؟
أتراه صراع هويات تعشش فى الذاكرة ثم تتحول إلى ساحة صراع هوياتى؟
هذه الهويات القديمة التى تبنى أعشاشها فى العقول المعاصرة تؤكد الهروب من العالم المعيش ومشكلاته الحقيقية، هروب هو ثمرة عجز الإرادة عن صناعة عالم يحقق السعادة البشرية.
هذا الهروب المرضى من الواقع ينتج الصراعات المرضية الزائفة، والصراعات المرضية المتولدة من الولع المرضى بالماضى لا تقود إلا إلى تدمير البلاد والعباد.
لنأخذ نماذج من هذا الولع المرضى بالماضى ونسأل ما قيمته فى صناعة الحاضر الذى نسعى للعيش فيه بكل علاقات معشرية آمنة.
تنظر بعض الأقلام التى تعتقد بأن هويتها القديمة قد تم الاعتداء عليها من العرب فى القرن السابع، وإن عرب اليوم من المحيط الأطلسى إلى الخليج العربى لا ينتمون إلى بلاد الشام والعراق ومصر والمغرب... إلخ.
وتبدأ الشجارات على صفحات التواصل الاجتماعى وما شابه ذلك، شجارات ليس لها أية قيمة لا معرفية ولا عملية.
إذ ينبرى عربى الهوية للرد بقوله إن العرب منذ ما قبل الميلاد هم السكان الأصليون فى بلاد الشام والعراق، فيرد عليه ذو هوية آشورية الأشوريون هم أصل سكان هذه البلاد، ويتدخل كردى ويعلن بأن السومريين أجدادنا هم الأصل والفصل، وإذا بشخص يعلن أنه فينيقى وهكذا.
هب بأن جميع المتحدثين صادقون، ما الذى سيغير حياتنا الراهنة التى نعيشها، وما هو المستقبل المرتبط بهذا الولع المرضى بالماضى.
وتأمل معى أيها القارئ العزيز تلك المعارك المسيئة للعيش المشترك بين منهم مع هذا الطرف أو ذاك من المتصارعين على السلطة فى الماضى. وإيراد قصص القتل التى تمت وانتهت قبل ألف وخمسة قرون.
كيف باستطاعتنا أن نصنع عالمًا جديدًا وهويات وطنية بناء على استحضار صراعات الماضى، وهذا الولع باستحضار ماض يولد الشجار؟
وزيادة الطين بِلة حين يتحول صراع على الماضى إلى صراع قاتل فى الحاضر، فيدخل عالم السياسة والأيديولوجيا القاتلة. وتبدأ عمليات الثأر المتبادلة بين المتصارعين.
إن أحدًا من المصابين بالولع المرضى القاتل بالماضى لا يتساءل ولم يتساءل: هل هناك قوة على وجه الأرض قادرة على إعادة صناعة الماضى وتغيير مساره الذى تم؟
هل هناك قوة على هذه الأرض كلها قادرة على إعادة الأرواح للذين قضوا وقُتلوا؟
يمكننا أن نحب رموز تاريخنا الماضى بل ويجب أن ننظر إليهم نظرة فيها من الإيجابية أو النقد، ولكن لا يجوز إطلاقًا وطنيًا وإنسانيًا وأخلاقيًا أن نجعل من رموز الماضى أساسًا لصراع راهن ولهويات متقاتلة.
ليس هناك حالة أكثر إساءة للعيش المشترك من أن يكون مقوما من مقومات هوية ما كره هوية آخر.

أحمد برقاوى
جريدة البيان الإماراتية

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved