هامش للديمقراطية.. مراجعات ضرورية لليمين الدينى
عمرو حمزاوي
آخر تحديث:
الإثنين 2 سبتمبر 2013 - 8:00 ص
بتوقيت القاهرة
نعود إلى البدايات: إذا كان التنظيم الديمقراطى يضع مجموعة من الشروط والضوابط لمشاركة الأحزاب السياسية هى التزام السلمية والعلنية وسيادة القانون وقواعد المنافسة النزيهة والامتناع الكامل عن توظيف آليات الديمقراطية للترويج لأفكار أو أفعال تهدم قيم الحرية والمساواة والمواطنة وحقوق الإنسان والمدنية وتجريم التمييز، فإن اليمين الدينى فى مصر مطالب استنادا إلى هذه الشروط والضوابط بممارسة فورية للنقد الذاتى ولمراجعة مجمل رؤاه ومواقفه بعد خبرة الفترة الممتدة من ٢٠١١ إلى اليوم. وقناعتي، والتى أسجلها من موقع الأكاديمى المهموم بقضايا الوطن والعازف طوعا عن المشاركة فى الحياة السياسية وتفاعلاتها إلى حين، أن ممارسة اليمين الدينى للنقد الذاتى وللمراجعة ينبغى أن تأتى فى ستة سياقات مترابطة ومتكاملة ولا يصح أبدا فصلها عن بعضها البعض.
1 ــ قبول الفصل بين الدين والسياسة واحترام القيم الديمقراطية: ويعنى هذا الموافقة على منع تكوين الأحزاب على أساس دينى، وتجريم ترويجها لأفكار أو أفعال تتناقض مع الحرية والمساواة والمواطنة أو تستدعى الدين (زيفا) بمضامين تمييزية، والتسليم بحق الدولة والمجتمع وبأدوات سيادة القانون فى المراقبة الديمقراطية للأحزاب لضمان عدم تورطها بعد تكوينها فى ممارسات تمييزية أو تحول بعض الأحزاب فى الواقع إلى أحزاب دينية. ويترتب على ذلك قبول اليمين الدينى لمبدأ إعادة النظر فى شرعية أحزابه المكونة بالفعل فى مصر، وإلزامه بتكوين أحزاب محافظة تمتنع عن استدعاء المرجعية الدينية (زيفا) للترويج لمضامين تمييزية أو لهدم قيم الحرية والمساواة والمواطنة أو للزج بدور العبادة فى المنافسة السياسية والانتخابية. كذلك يترتب على قبول الفصل بين الدين والسياسة إخضاع الأحزاب هذه للمراقبة الديمقراطية بحيث يحال وجوبا بينها وبين التحول إلى أحزاب دينية ويؤسس لإجراءات عقابية فعلية تصل إلى الحل والحظر إن هى استحالت فى الواقع إلى أحزاب دينية مقنعة. والهدف هو إنهاء الوضعية الاستثنائية وغير الديمقراطية لليمين الدينى والانفتاح على تكوين أحزاب محافظة تتشابه مع الأحزاب المسيحية الديمقراطية فى أوروبا وأمريكا اللاتينية فى التزامها بالحرية والمواطنة والمساواة وتجريم التمييز وفى استدعاء المرجعية الدينية دون تناقض لا مع قيم الديمقراطية ولا مع آلياتها. فتديين السياسة مرفوض ديمقراطيا ويمثل خطرا بالغا على الدولة، وتسييس الدين مفسدة له وللمجتمع أيضا.
2 ــ قبول الفصل بين العمل الدعوى والمشاركة السياسية فى إطار التزام كامل بالقوانين المصرية: كأمر واقع فرض اليمين الدينى تداخلا متصاعدا بين جماعاته القائمة بالعمل الدعوى والاجتماعى وبين الأحزاب السياسية التى كونها. ولم يفصل بصورة تنظيمية ومالية قاطعة أو مقنعة للرأى العام بين الجماعات والأحزاب، بل ولم يتم إخضاع بعض هذه الجماعات وفى مقدمتها جماعة الإخوان المسلمين للقوانين المصرية ولرقابة اليد العامة (مؤسسات الدولة). على اليمين الدينى، إن أراد البقاء مجتمعيا وسياسيا، قبول الفصل بين العمل الدعوى والمشاركة السياسية، بين الجماعات والأحزاب. عليه أيضا الاعتراف بسيادة القانون، الأمر الذى يعنى حل جماعاته غير المسجلة بشفافية كجمعيات أهلية وفى مقدمتها جماعة الإخوان المسلمين وقبول إعادة تأسيسها وفقا للقوانين المصرية وفى إطار الضوابط التى ستقصر عملها على الجوانب الدعوية والاجتماعية وتضمن الشفافية والسلمية والعلنية لجهة العضوية أو التمويل أو الأنشطة. كفانا خلطا بين الدعوة والسياسة، فلا طرائق الأولى تؤهل للعمل فى الثانية ولا ممارس السياسة يمتلك مقومات العمل الدعوى.
3 ــ قبول مبادئ المساءلة والمحاسبة والعدالة الانتقالية: خلال عام رئاسة الدكتور محمد مرسى، تورطت جماعة الإخوان والقوى المتحالفة معها فى عصف بسيادة القانون وممارسات استبدادية استعدت قطاعات واسعة فى المجتمع من القضاة إلى المثقفين والمفكرين. وقعت أيضا انتهاكات لحقوق الإنسان وسالت الدماء أمام الاتحادية وفى مواقع أخرى، ومارست بعض الأصوات السياسية والدينية تحريضا واضحا على العنف وروجت للطائفية والمذهبية المقيتة وتكفير المعارضين. وليس هذا بموقف مستجد لي، بل أذكر الرأى العام الذى تشوه اليوم انطباعاته على وقع الترويج الردى لمقولات التخوين والعمالة الزائفة بأننى سجلته مرارا فى مقالاتى اليومية بجريدة الوطن قبل ٣٠ يونيو واعتبرت جميع هذه الخطايا منهية لشرعية رئاسة الدكتور مرسى الأخلاقية والقانونية والسياسية ومرتبة لحق المصريات والمصريين فى المطالبة بانتخابات رئاسية مبكرة. وبعد ٣٠ يونيو وكما سجلت مرارا، تورطت جماعة الإخوان فى أعمال للعنف الأهلى وانتهاكات لحقوق الإنسان وتحريض على العنف يحتم حق المجتمع والصالح العام عدم تجاهلها وضرورة المساءلة والمحاسبة العادلة بشأنها. ولكى يدار ذلك فى إطار من سيادة القانون تحتاج مصر إلى منظومة متكاملة للعدالة الانتقالية، ويتعين على اليمين الدينى قبول مبدأ المساءلة والمحاسبة واحتمال نتائجها التى قد تذهب باتجاه حل جماعات وأحزاب والمعاقبة القانونية للمتورطين فى الاستبداد والفساد وانتهاكات حقوق الإنسان وحرمانهم (المؤقت أو الدائم) من المشاركة السياسية حال ثبوت تورطهم بأدوات سيادة القانون التى حتما ستحول دون العقاب الجماعى. فى المساءلة والمحاسبة والعدالة الانتقالية، إذن، مسوغات لحل بعض جماعات وأحزاب اليمين الدينى حال ثبوت تورطها فى الاستبداد والفساد وانتهاكات حقوق الإنسان، وهى مسوغات تضاف إلى ضرورة إنهاء الوضعية الاستثنائية لبعض جماعات اليمين الدينى وإخضاعها للقوانين المصرية والفصل بين الدعوة والسياسة المشار إليه فى النقطة السابقة. وليس الموقفى هذا بمستجد، بل تناولته أكثر من مرة خلال الأسابيع الماضية وربطت بين تطبيق مبادئ المساءلة والمحاسبة والعدالة الانتقالية على اليمين الدينى وبين تطبيقها المتكامل والمنضبط بأدوات سيادة القانون على كل المتورطين فى الاستبداد والفساد وانتهاكات حقوق الإنسان فى الفترة الممتدة من ١٩٨١ إلى اليوم وبغض النظر عن المواقع الرسمية أو السياسية.
4 ــ ضبط علاقة اليمين الدينى بالدولة الوطنية: فى عموم العالم العربى ومنذ بدء تأسيس جماعات وأحزاب اليمين الدينى فى الجزء الأول من القرن العشرين، أحاطت الشكوك والهواجس علاقتها بالدولة الوطنية ومؤسساتها واستمرت قائمة إلى يومنا هذا على وقع تصريحات متضاربة وأفعال أكثر تضاربا. وفشلت جماعات وأحزاب اليمين الدينى فى مصر والأردن وتونس والبحرين وغيرها فى إقناع قطاعات واسعة من المواطنات والمواطنين بأن ولاءها للدولة الوطنية وليس لمنظومات تتجاوزها (الأمة أو الأممية الإسلامية أو إحياء دولة الخلافة) وبأن الأولوية هى لتماسك الدولة الوطنية ولمفهوم مواطنة الحقوق المتساوية دون تمييز على أساس الدين أو المذهب وليس لتفتيت الدولة الوطنية لمصلحة كيانات أخرى وهدم مفهوم المواطنة. وفى مصر اليوم، وبعد مجمل ممارسات جماعة الإخوان وبعض ممارسات السلفيين والاستفزاز الصارخ بالتحريض ضد مؤسسات الدولة والاعتداءات على دور عبادة الأقباط وعلى الشيعة المصريين ورفع رايات جماعات وتنظيمات غير مصرية والتورط فى الاستقواء بالخارج (الذى رمانى به زورا بعض اليمين الدينى حين تحدثت عن البيئة الدولية لوضع الدساتير)، شكوك واسعة ومشروعة بشأن قدرة اليمين الدينى على الولاء للدولة الوطنية وإعطاء الأولوية لمصلحتها. لذلك ودون الوقوع فى رذيلة التخوين، ومع مراجعة مواقفهم من ضرورة الفصل بين الدين والسياسة وبين الدعوة والمشاركة السياسية وقبول تطبيق مبادئ المساءلة والمحاسبة والعدالة الانتقالية، يتعين على من سيبقى وفى إطار القوانين المصرية من جماعات وأحزاب اليمين الدينى الخروج على الرأى العام بخطاب علنى قاطع فى ولائه للدولة الوطنية والتسليم بأن الشكوك المجتمعية فى ولاء اليمين الدينى هذا ستستمر لفترة وبأنها تحتاج إلى أفعال وممارسات واقعية للطمأنة بجانب الخطاب العلنى. ولا يتناقض أبدا الولاء للدولة الوطنية والحرص على تماسك مؤسساتها مع المطالبة بالتزام الدولة بسيادة القانون والمساواة والحيادية والعدل ورفض انتهاكات الحريات وحقوق الإنسان. ففى القيم الأساسية هذه الضمانة الأكبر للدولة الوطنية ولعلاقة الشرعية (بمعنى الرضاء الشعبى) الذى يربط بينها وبين المواطن ولتماسك مؤسساتها.
5 ــ ضبط العلاقة بين اليمين الدينى والقطاعات الشعبية: حين تمارس قوى المجتمع العمل الاجتماعى (دعوى أو خيرى أو أهلى أو تنموى) وتشارك فى السياسة فى إطار الدولة الوطنية، فإن المنوط بهذه القوى إن هى أرادت دفع البلاد إلى الديمقراطية والتنمية المستدامة والعدالة أن تسمو على انقسامات المجتمع وتمايزاته الدينية والمذهبية والعرقية أو بحسابات الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وتعمل على تعميق قيم المواطنة والمساواة وتمتنع عن استغلال الانقسامات والتمايزات هذه للحصول على مكاسب شعبية أو سياسية أو انتخابية تظل فى التحليل الاخير متعارضة مع الصالح العام للمواطن وللمجتمع وللدولة. وفى التسامى عن الانقسامات والتمايزات وتعميق المواطنة والمساواة جوهر المهمة التحديثية والتنويرية للقوى المشاركة فى العمل الاجتماعى والسياسي، هذه المهمة التى ابتعدت عنها طويلا جماعات وأحزاب اليمين الدينى. فالترويج للطائفية وللمذهبية، وتوظيف دور العبادة للربط الزائف بين صحيح الدين وبين موقف أو قناعات سياسية بعينها، واستغلال احتياجات الناس المعيشية لبناء قبول شعبى (رأسمال اجتماعى) وترجمته لنفوذ سياسى أو لوقود عنف أهلى عوضا عن العمل التنموى الحقيقى، والاستعلاء على قطاعات المواطنات والمواطنين الأقباط على النحو الذى مارسه الدكتور محمد مرسى، كل هذه الأمور تورط بها وإن بدرجات مختلفة اليمين الدينى وتتناقض بصورة قاطعة مع المهمة التحديثية والتنويرية للقوى المشاركة فى العمل الاجتماعى والسياسى. هنا احتياج ماس للنقد الذاتى وللمراجعة يتعين على اليمين الدينى التعامل معه بجدية حقيقية.
6 ــ الاعتذار: فالنقد الذاتى والمراجعة فى السياقات الخمسة السابقة سيضعان حتما اليمين الدينى فى موقع الاعتذار الواجب للمواطن وللمجتمع عن مجمل أخطاء، بل وخطايا، الفترة السابقة. رمزية الاعتذار ومضمونه، وبعد قبول الفصل بين الدين والسياسة وبين الدعوة والمشاركة السياسية والاعتراف بمبادئ المساءلة والمحاسبة والعدالة الانتقالية والتأكيد على أولوية الدولة الوطنية والمهمة التحديثية للمشاركين فى العمل الاجتماعى والسياسي، سيمكن من سيبقى من جماعات وأحزاب اليمين الدينى وفقا لهذه الشروط والضوابط من الإسهام فى بناء الديمقراطية وتحقيق التنمية المستدامة والعدالة. غداً هامش جديد للديمقراطية فى مصر.