إعادة هيكلة الساحة السياسية المصرية وصياغة الدستور
إبراهيم عوض
آخر تحديث:
الثلاثاء 2 أكتوبر 2012 - 8:15 ص
بتوقيت القاهرة
شهدت الساحة السياسية المصرية فى الأسابيع الأخيرة نشأة أحزاب وتشكل اصطفافات لتكوينات سياسية بغرض تعزيز القوى والاستعداد للنزالات السياسية التى تنتظر مصر فى الأشهر القادمة. نشأ حزب الدستور ليكون على ما يستخلص من تصريحات مؤسسيه ومواقفهم بمثابة الوفد المصرى بعد قرن من الزمان من نشأة الوفد الأول وتطويرا له، بمعنى أن يكون الإطار الجامع للوطنية المصرية، المتمسكة بالديمقراطية والحداثة، والواعية بالقضية الاجتماعية التى لا يمكن للمجتمع المصرى أن يتماسك بدون التصدى لها بعزم وفاعلية وكفاءة.وتشكل التيار الشعبى، يجمع بين طياته أنصار الاتجاهات التقدمية فى السياسة المصرية من ناصريين جدد واشتراكيين وغيرهم، وقد قبلوا صراحة بتعدد الأحزاب، وبالديمقراطية التمثيلية، وبتداول السلطة، مع تقديمهم للقضية الإجتماعية باعتبار أن النجاح فى التصدى لها هو الذى يصون الوطنية المصرية والحداثة. ونشأ أيضا تحالف «الأمة المصرية» يضم بين أجنابه عددا كبيرا من الأحزاب أكبرها الوفد الجديد والمصريين الأحرار بالإضافة إلى شخصيات بارزة، وهو تجمع هدفه، على ما يبدو، هو الديمقراطية الإجرائية، والدفاع عن الدولة المدنية. ولعل ما يميز هذا التحالف هو ماضى تعامل بعض مكوناته مع العهد السابق.
التعامل مع العهد السابق أو مع بعض بقاياه هو خط تمايز، ولذلك ارتسم فى الساحة السياسية اصطفاف للتيار الشعبى، والدستور، والتحالف الشعبى الاشتراكى، مع عدد من الأحزاب والتكوينات السياسية الأخرى التى يجمعها كلها الدفاع عن الوطنية المصرية، والحداثة، والتصدى للقضية الاجتماعية، مع الانفتاح على العالم وأفكاره وإن كان هذا الانفتاح مصحوبا بالدعوة الى حلول عادلة لمشكلات مصر والعوالم التى تنتمى إليها. السبيل إلى الدفاع عن القيم المذكورة فى نظر هذه الأحزاب والتكوينات هو إقامة دولة مدنية لا لبس فيها، تصون المساواة وعدم التمييز بين مواطنيها، أيا كانت عقيدتهم، رجالا ونساء، وتكفل الحقوق والحريات.
حزب الحرية والعدالة، الجناح السياسى للإخوان المسلمين، يستعد لعقد مؤتمره الأول، وسيكون هذا المؤتمر المرة الأولى التى يخرج فيها الإخوان المسلمون، أو مستخدمو أدوات السياسة من بينهم، إلى العلن، يناقشون قضايا السياسة والاقتصاد، ويتخذون القرارات ويعلنونها على الملأ. هذه أيضا إعادة هيكلة لأنها يمكن أن تكون مقدمة لفصل تفرضه ضرورات السياسة وإيقاعها، بين جماعة الإخوان المسلمين، الدعوية والاجتماعية، من جانب، وحزبها العامل فى سياسة الدولة، من جانب آخر.
الأزمة التنظيمية فى حزب النور الذى نشأ على عجل فى سنة 2011 هى بدورها مخاض لإعادة هيكلة فى داخل الحركة السلفية بين القائمين بالدعوة، والناشطين فى الحقل السياسى.
●●●
غير أن إعادة الهيكلة لا تخص الفاعلين من أحزاب و تجمعات سياسية وحدها، بل هى تتعلق أيضا، بل وبشكل خاص، بالمسائل الحالية على الساحة السياسية المصرية، والواقع هو أن هذه المسائل هى السبب فى نفس إعادة هيكلة الفاعلين وهى التى ستتمحور حولها النزالات السياسية المرتقبة.
أول هذه النزالات هو ذلك الخاص بالدستور الجارى إعداد مسودته وهو نزال سيتمحور أساسا حول ثلاث مجموعات من المسائل. المجموعة الأولى هى المسائل المتداخلة المتعلقة بالعلاقة بين مجال الدين ومجال السياسة؛ وبحماية الحقوق والحريات؛ وبالمساواة وعدم التمييز بين المواطنين، أيا كانت عقيدتهم، أو لونهم أو أصولهم العرقية، رجالا كانوا أو نساء. المجموعة الثانية خاصة بسلطات رئيس الجمهورية والسلطة التنفيذية، وبالفصل بين السلطات والتوازن فيما بينها. أما المجموعة الثالثة فهى المتعلقة بدور الدولة فى تأمين التمتع الفعلى بالحقوق الإقتصادية والاجتماعية والثقافية. فى هذا المقال، نتناول المجموعة الأولى من هذه المسائل.
●●●
الصوت الأعلى للسلفيين فى الجمعية التأسيسية فى تشكيلها الحالى يذهب إلى حد الرغبة فى دمج المجال السياسى بالمجال الدينى. الداعون إلى الدولة المدنية وإلى التمييز بين المجالين الدينى والسياسى فى إمكانهم جمع حجج كثيرة من التاريخ المعاصر لمصر ومن فكرها وفقهها الحديثين تدعم موقفهم، وهى حجج سيساندها المصريون. لم يكن التمييز بين المجالين فى مصر انقطاعا مفاجئا ولا كان قطيعة حادة بينهما، بل كان تطورا طبيعيا صاحب نشأة الدولة الحديثة فى مصر من القرن التاسع عشر إلى القرن العشرين. سيكون على الإخوان المسلمين أن يتخذوا موقفا سياسيا من هذه المواجهة بين التيار السلفى وأنصار الدولة المدنية، وهى مواجهة سياسية لأنها لا تخص المعتقد ولا الشعائر ولا الأخلاق فى شىء بل هى تتعلق بسياسة الجماعة الوطنية ومشكلاتها. وإن كان الإخوان ينادون بعلاقة أقوى بين المجالين الدينى والسياسى، فإنه ليس معروفا عنهم تنديد بالدولة الحديثة فى مصر ولا عداء لها. رأب الصدع بين الفاعلين السياسيين بشأن العلاقة بين المجالين السياسى والدينى ممكن، والعبء الأهم فى ذلك يقع على أنصار الدولة المدنية وعلى الإخوان المسلمين.
حماية الحقوق والحريات من أى انتقاص منها بدعوى حماية القيم والأخلاق، أو صيانة الأمن القومى مسألة ثانية تتصل بالعلاقة بين المجالين السياسى والدينى، من جانب، وبسلامة بناء النظام السياسى وبأدوات ازدهاره وتصحيح مساره واختياراته، من جانب آخر. القيم والأخلاق لا تحمى بنص دستورى، ولا حتى بالموعظة، وإنما بأن يمارس المواطنون حريتهم فى نشر هذه القيم والأخلاق وفى الدعوة إليها. أما الأمن القومى فإن الحريات هى التى تصونه لأن من شأنها أن تصحح السياسات الخاطئة التى تعرضه هو نفسه للخطر، وما زالت فى الأذهان أمثلة عديدة للآثار الوخيمة على سلامة الوطن لغياب الحريات. علاوة على ذلك، صيانة الأمن القومى عبارة مطاطة استخدمت لاحتكار السلطة وإساءة استخدامها، ولقمع المعارضين، ولقد كان الإخوان المسلمون أبرز من عانى من القمع بدعوى صيانة الأمن القومى وبغيرها. لذلك فإن عليهم أن يستخلصوا دروس الماضى عند وضع القواعد للمسقبل وأن يدركوا أنه كما أن الأمور لم تدم لغيرهم فإنها لن تدوم لهم. التحالفات المدنية لا تعدم حججا تساند بها دفاعها عن الحقوق والحريات، إلا أن عليها أن تبلورها وأن تنزل بها إلى المواطنين.
●●●
المساواة بين المواطنين وعدم التمييز بينهم لأى سبب كانا مسألة جوهرية فى صيانة الوطن المصرى. الوجه الأول لهذه المسألة يتعلق بالمساواة بين المواطنين الأقباط والمسلمين. الدستور وثيقة سياسية تنظم العلاقة بين مؤسسات للدولة، من جانب، وبينها وبين المواطنين، من جانب آخر. المواطنون أمام الدستور والقانون، وفى الممارسة، سواء، بل ينبغى أن يوفر الدستور والقانون السبل لتحقيق المساواة الفعلية بين المواطنين فى الممارسة. على حزب الحرية والعدالة أن يترجم تأكيد الإخوان المسلمين على تمسكهم بعدم التمييز بين المواطنين على أساس الدين إلى مواقف عملية من أحكام الدستور، وعلى التحالفات المدنية أن تبلور مواقفها وأن تبينها للمواطنين.
المرأة المصرية ناضلت من أجل نيل حقوقها والمساواة مع الرجل، وساندها المجتمع المصرى فى نضالها لعقود طويلة فى القرن العشرين. فضلا على الجانب الأخلاقى لحماية حقوق المرأة، فالمنتظر من أى مجتمع يتطلع إلى البناء والتنمية والتقدم أن يستفيد من إمكانيات كل المواطنين، نساء ورجالا. حماية حقوق المرأة وتمتعها بالمساواة هما اللذان يمكِّناها من أن تقدم أفضل ما عندها للمشاركة فى تقدم الوطن. تحالفات القوى المدنية ينبغى أن تعمل عن قرب مع منظمات المرأة المصرية، بل تضمها إليها. وعلى حزب الحرية والعدالة أن يتخذ فى هذه المسألة موقفا واضحا.
●●●
ميزة أساسية لإعادة هيكلة الساحة السياسية هى أنها تختصر عدد الفاعلين السياسيين، وهى بتركيزها لقوى الفاعلين المدنيين تثرى الحياة السياسية بأطراف تستطيع إن أحسنت التخطيط والتصرف والاتصال بالجمهور أن تؤثر فى النقاش العام بحجج تستمدُ من تجربة الدولة الحديثة فى مصر، وهو تأثير سيزيد مفعوله إن كان مصحوبا بنقد لإخفاقات هذه التجربة. ميزة جوهرية أخرى هى أنها ستدفع الإخوان المسلمين فى حزب الحرية والعدالة إلى أن يطوروا أفكارهم وإلى أن يتخذوا مواقف لا لبس فيها من المسائل الخلافية فى الدستور.