«تنميات» متعددة أم تنمية واحدة؟
محمد عبدالشفيع عيسى
آخر تحديث:
الأربعاء 2 أكتوبر 2024 - 7:55 م
بتوقيت القاهرة
تنمية واحدة أم «تنميات» متعددة؟ عكف المرحوم الدكتور إسماعيل صبرى عبدالله، مدير معهد التخطيط القومى الأسبق، طوال أعوام مديدة، على كتابة (عمود) فى إحدى الصحف الفكرية الأسبوعية، بعنوان (ألفاظ ومعانٍ). وقد كرس جهده فى هذا الباب على كشف أسرار بعض الألفاظ المستغلقة، لتقريبها لأذهان القراء ولو كانوا من خاصة المثقفين المتنورين، وقد خطر لى اليوم أن أحاول شيئًا من ذلك، بالتطبيق على نقطة (مستغلقة) حقًا وهى«التنمية»، فما «التنمية»؟ سؤال غير سهل المرمى، وعميق الأغوار فمن قائل بأن التنمية مصنفة لفظيًا حسب مجالات استعمالها البلاغى المختلفة! فإذا إنها تنمية اقتصادية أو اجتماعية وهلم جرا.
وسوف نتبع هذه الطريقة (الشكلانية) لنقول إن أبرز ما ظهر فى الحقل اللفظى للتنمية، وأقدمها فى نفس الوقت، هى التنمية الاقتصادية. كان ذلك فى أواخر الأربعينات من القرن المنصرم، وأوائل الخمسينيات. ولعل التنمية هنا، كمقابل للكلمة Development، ظهرت فى المجال التداولى اللغوى بعد لفظة التأخر Backwardness، حيث اشتقت لفظة البلاد المتخلفة underdeveloped كبديل للبلاد المتأخرة، ثم لحقت بها بعد ردح من الزمن لفظة«البلاد النامية» Developing فى أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات.
من«المتأخرة» إلى «المتخلفة» إلى «النامية» جرى اللسان العربى ليعكس الأوضاع المختلفة لموقع البلدان (الآخذة فى النمو) من النظام العالمى. وسواء نظرنا إليها من زاوية «التأخر» فـ«التخلف» فـ«النمو»، حتى مطالع السبعينيات ثم ما تبعها، فإن المحتوى الاقتصادى للفظة التنمية كان هو الأغلب فى جميع الأحوال، فإذ بـ«التنمية الاقتصادية» هى الأغنى فى المحتوى النظرى من أى استخدام آخر لتلك اللفظة.
وبرغم الثراء الكامن فى «التنمية لفظًا»، ونعنى «التنمية الاقتصادية»، فإن عيبها الجوهرى كامن بدوره فى قصر استخدام اللفظة على مجال التداول الاقتصادى حصرًا، ما جعل التنمية - إلى حد كبير- وكأنها مرادفة للتطور الاقتصادى دون غيره، من أوجه التطور أو «التنمية»..
فهل أن ذلك صحيح حقًا، وهل أن التنمية هى «التنمية الاقتصادية» وكفى؟ ذلك ما نربأ بجمهرة الاقتصاديين أن يحذوا حذوه؛ وإنما «التنمية الاقتصادية» مجرد بُعد واحد ليس غير، من أبعاد عملية التنمية، فتصير التنمية بهذا المدلول عملية، «ذات بُعد واحد» one-dimensioned. فأين منها إذن الأبعاد الأخرى للعملية ذات الأبعاد المتعددة والمتداخلة بطبيعتها، Multi-inter disciplinary، حيث تنوع الجوانب وترابطها الجدلى وحركتيها عبر الزمن كمًّا وكيفًا.
• • •
عود على بدء، فإن الثراء النسبى الأكبر لمفهوم التنمية الاقتصادية قد أغرى الباحثين والخبراء والمنظّرين بالنظر إلى (التنمية) و(التنمية الاقتصادية) كمرادفين إلى حد بعيد. ومن القصور البادى فى ذلك«الترادف» وجد المبرّر لاستخدامات تداولية أخرى، منذ البداية تقريبًا، للفظة التنمية، فإذا إنها تنتقل لتكون محورًا «لأعمال علمية متنوعة»، فى المجالات المعرفية للعلوم الاجتماعية والإنسانية، وخاصة فى علم الاجتماع.
وهنا ظهرت على الفور«التنمية الاجتماعية» كلفظة دالة على التنمية المنفردة فى المجال السوسيولوجى بمعناه الضيق إلى حد بعيد. وعلى الجانب الآخر برزت فى الكتابات السوسيولوجية معانٍ متعددة ذات غنى نظرى-عملى كبير، ومن ذلك ما ظهر فى الكتابة العربية مثلًا من خلال العمل الإبداعى، الاجتماعى، «فى بناء البشر» للدكتور حامد عمار) وبالتوازى مع التنمية الاجتماعية، ظهرت لفظة ذات معنى يكرّس الطابع التجزيئى للعلوم الاجتماعية بمدلولها الواسع، حيث ظهرت«التنمية السياسية» فى الأدبيات الأكاديمية الأمريكية بالذات خلال عقد الستينيات وما بعده خاصة السبعينيات. وحينئذ بدأ ظهور «التنمية السياسية» كحقل معرفى يتبلور، ويركز على دراسة الديمقراطية، من خلال «التغير السياسى» ومفهوم «الحداثة» عبر مقتربات عدة، مثل مقترب «المدخلات والمخرجات» وبالتوازى مع «التغير» ظهر مفهوم «الاستقرار» فى الستينيات، على يد «صمويل هنتنجتون»، والذى تنوعت وتجددت إسهاماته الفكرية فيما بعد حتى كتابه الأشهر «صدام الحضارات».
ومضت «الخطة» و«الخطى» «التجزيئية» للعلوم الاجتماعية، وإن شئت فقل: العلم الاجتماعى، حين روّجت بعض منظمات الأمم المتحدة فى حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية وحتى مطلع التسعينيات، لمصطلحات ذات بنى لفظية متقاربة، مثل «التنمية العلمية» و«التنمية التكنولوجية»، والتى انتقلت إلى المجال العربى والمصرى، ولو من خلال تكوين «الجمعية التكنولوجية» فى الثمانينات.
وتكرست التجزيئية مرة أخرى، من خلال إنشاء وأعمال «مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية» فى النصف الأول من الستينيات UNCTAD.
ومن قبل ذلك، نلحظ ظهور «منظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية» UNIDO جنبًا إلى جنب المنظمات الدولية الأخرى المنشأة كوكالات متخصصة للأمم المتحدة UN.
وكان للمنظمات الإقليمية نصيب وسهم وافر فى تكريس التجزيئية، مثل «جامعة الدول العربية»، والتى أنشأت المنظمة العربية للتنمية الزراعية وغيرها.
• • •
هذا، وعدا عن كل ما سبق، فقد ظهرت فروع علمية كاملة استعارت مفهوم التنمية، لتقيم منها بناءً أو صرحًا مستقلًا، مثل «التنمية البشرية» والتى بلغت أوجها التنظيرى من خلال مؤلف «أمارتيا سن»: «التنمية حرية».
بلغ الطموح النظرى منتهاه مع ما قام عليه الصرح الفكرى للتنمية ليس فقط من خلال نظرية التنمية التقليدية، سواء فى فرعها الكلاسيكى حول خصائص البلاد النامية وبعض مشكلاتها البارزة (كالديموجرافيا المختلّة) أو من خلال فرعها المتطور على أيدى مدارس مبدعة مثل مدرسة «نقد التبعية»، حيث برزت الأعمال المتصلة بالتحولات الهيكلية Structural Transforming، والعلاقة الاعتمادية لبلدان «العالم الثالث» على العالم الخارجى ماليًا وتجاريا وتكنولوجيًا (التبعية)، جنبا إلى جنب ضرورة التوازن الرشيد بين المقادير الاستثمارية المخصّصة للاستخدامات المختلفة حيث تتراوح بين اتجاه «التنمية المتوازنة» و«التنمية غير المتوازنة».
وأخيرًا قامت التنمية البشرية «المستحدثة» على أقنوم نظرى مختلف، قوامه رفع مستوى الدخول وتحسين مستويات المعيشة والرفاهية للأفراد، وخاصة فى مجالات التعليم والصحة والرعاية والحماية الاجتماعية.
ولما ظهر أن «التنمية البشرية» قاصرة عن معانقة أبعاد التحول الهيكلى والاستقلالية النسبية فى المجال الخارجى، وقاصرة عن معانقة المفاهيم المرتبطة ببناء الإنسان، قام البعض بابتداع مفهوم ولفظة «التنمية الإنسانية» للإيحاء بالمحتوى المختلف عن مجرد تنمية حياة (البشر) كأفراد أو جماعات، بناءً على تطور المعرفة وحقوق المرأة.. إلخ.
ولكن الطابع التجزيئى للعلم الاجتماعى لم يتم التخلى عنه وإقامة البديل المتكامل، حتى مع «التنمية الإنسانية».
لذلك كله، ومن ذلك كله، يحق لنا أن نقول إن التنمية فى حقيقتها ليست «تنميات» مجزّأة أو مُجتزأة، ولكن التنمية عملية Process متكاملة متضافرة، اقتصاديًا واجتماعيًا، وسياسيًا، وثقافيًا، مبدؤها ومنتهاها الإنسان - الإنسان.
بهذا المعنى لا تكون ثمة تنمية اقتصادية، وأخرى اجتماعية، أو ثقافية، أو سياسية. إلخ. لا تكون ثمة (تنميات) متعددة، لا بل تكون هناك تنمية واحدة لا تتجزأ. تنمية تبدأ وتنتهى بالإنسان الكامل والمتكامل. تلك هى أنسنة التنمية، وكما كنا نقول من زمان إن (الديمقراطية هى حكم الشعب بالشعب ومن أجل الشعب)، فكذلك يحق أن نقول إن التنمية هى التنمية للإنسان بالإنسان ومن أجل الإنسان. فالإنسان هو الوسيلة وهو الواسطة والغاية معًا.
وهذا ما نرجوه حقًا.