الكبار يكذبون أيضًا

شعبان يوسف
شعبان يوسف

آخر تحديث: الجمعة 2 نوفمبر 2012 - 7:55 ص بتوقيت القاهرة

ليس من الأخلاق أن نقول عن ناقد أو مبدع كبير، وله تاريخ فنى أو نقدى أو فكرى طويل ومؤثر، إنه يكذب أو يجهل، أو يتجنى، أو يتجاهل،  ولكننا أمام التوثيق فمن الضرورى والواجب أن نسمى الأمور بمسمياتها، وأعلم مقدما أن هذا الأمر سيزعج الكثيرين، لكننى فيما سوف أذهب إليه من الإشارة إلى وقائع سلبية، لن أتعامل إلا مع كشف الحقيقة، وهناك وقائع كثيرة فى التاريخ الثقافى المعاصر سنتناولها فى كتاب مستقل، وهنا فى هذه السطور أردت أن أشير إلى أطراف من تلك الوقائع.

 

فى 27مايو الماضى مرت الذكرى الأربعون على رحيل الفنان والمخرج الكبير محمد كريم، وعندما نذكر اسم محمد كريم لابد أن ننتبه تقديرا وإجلالا لأحد صناع السينما فى مصر، ويكفى أنه أول ممثل مصرى وقف أمام الكاميرا فى فيلمى شرف البدوى والزهور المميتة، ولا يمكن فصل تاريخ السينما المصرية دون أن يكون لمحمد كريم مساحة واسعة فى هذا التاريخ.

 

وربما تكون الدوائر الفنية قد أغفلته فى هذه الذكرى كما هى العادة دوما، ولكن الصديق العزيز الدكتور مدكور ثابت، كان قد قام بجهد عظيم عندما كان رئيس أكاديمية الفنون فأنشأ وحدة للتوثيق تحت عنوان «ملفات السينما» ومن هذه الوحدة أو السلسلة قرأنا تراثا هائلا كان من الممكن أن يضيع ويندثر لولا انتباه واحد من أخلص المثقفين والمبدعين والأكاديميين المصريين لهذا التراث، وضمن هذه السلسلة صدرت مذكرات المخرج الرائد محمد كريم من إعداد وتحقيق محمود على.

 

ومن خلال هذه المذكرات تعرفنا على وجوه غائبة ومجهولة فى تاريخ السينما المصرية،  ورغم ذلك فإن مذكرات الفنان الرائد كانت تحتاج إلى مراجعة وتدقيق وتصويب وهذا ما فعله الأستاذ محمود على عندما يحتاج الأمر الى ذلك، وأبرز ما جاء فى المذكرات يحتاج للتدقيق أو المراجعة هو ما ذكره عن فيلم «الوردة البيضاء»،  وزعم «كريم» أن الفيلم من تأليفه بمشاركة سليمان نجيب وتوفيق المردنلى،  وليس لها مؤلف،رغم أنه يعترف بأن كثيرا من الشكاوى انهالت عليهم،  وكل واحد ينسب تأليف الفيلم إلى نفسه،  ورغم أن الفيلم نفسه بعد ذلك نسب الفكرة إلى محمد متولى فى التتر، وهوإذاعى القديم، إلا أن محمد كريم نفى الرجل، وقضى عليه تماما فى بضعة سطور.

 

والحقيقة أن الأستاذ محمود على قد لاحظ ذلك وعلق عليه،  وكذلك الصديق الناقد على أبوشادى ذكر ذلك فى كتابه «كلاسيكيات السينما العربية»،  وذهب ليسأل المخرج الكبير فى هذه الواقعة، إلا أن الفنان الكبير أصر على إنكاره محمد متولى تماما، ويعلق أبوشادى قائلا: (والغريب أن الناقد المخضرم،  والمخرج العجوز قد نسيا تماما أن اسم محمد متولى قد جاء فى عناوين الفيلم بوضوح فى لوحة تتضمن كلمات «رواية مصرية غنائية وضع فكرتها محمد متولى»!! والعتب على السن!!).

 

والجدير بالذكر أن «كريم» يذكر فى لقائه الأول بالفنان محمد عبدالوهاب،  أن هذا الأخير طلب من كريم أن يخرج فيلما عنه وعن حياته، عندما قال له عبدالوهاب: «مش ممكن يا أستاذ تصور لى فيلم قصير عن حياتى الخاصة؟» ورد عليه كريم: «فعلا دى فكرة كويسة.. وتبقى ذكريات جميلة فى الموسيقى!»،  وبالفعل كان فيلم «الوردة البيضاء» هو تسجيل لحياة محمد عبدالوهاب، وأظن أن الرواية التى وضعها محمد متولى تستلهم حياة عبدالوهاب، وهو يهديها إليه قائلا: «إلى صديقى الموسيقى العظيم محمد عبدالوهاب لذكرى فترة من حياتى».. وهناك تطابق بين الرواية والفيلم فى الأحداث والأشخاص بأسمائهم،  والرواية مكتوبة بفنية عالية حسب مقاييس تلك المرحلة،  ودرءا لأى لبس فالأجدى هو إعادة نشر هذه الرواية لرد اعتبار هذا الكاتب الذى اغتالته بضعة سطور طائشة!!

 

ومثلما حدث مع محمد متولى، هناك قصة أخرى حدثت وقائعها فى منتصف ثمانينيات القرن الماضى، عندما التفت الناقد الكبير الدكتور لويس عوض للشعراء «الشباب»!! فاروق شوشة وبدر توفيق ومحمد ابراهيم أبوسنة ونصار عبدالله،  وكانوا قد قاربوا الخمسين من أعمارهم، وأتحفنا الدكتور بسلسلة مقالات فى جريدة الأهرام، وعندما تعرض لإحدى قصائد الشاعر نصار عبدالله،  والتى يهديها الشاعر إلى «أحمد عبيدة»،  ولأن لويس عوض لا يعرف من هو أحمد عبيدة، كما لا يعرفه كثيرون، فقرر أن «نصار» يقصد شخصا آخر وهو الضابط البطل «محمد عبيد» بطل معركة التل الكبير فى زمن الثورة العرابية،  وراح عوض يقارن بين القاهرة المستدعاة فى القصيدة،  والقاهرة أثناء الثورة العرابية،  وبنى نقده كله على هذه الفرضية الخاطئة تماما.

 

  وكذلك أعدم الشاعر أحمد عبيدة مرة أخرى دون أن يكلف نفسه بالسؤال: هل هناك من يسمى بأحمد عبيدة بالفعل أم لا؟،  لكن الدكتور لم يسأل،  وبالتالى قرر قتل أحمد عبيدة الذى كان قد انتحر بالفعل فى أواخر العام 1974، بعد حادث اعتقاله وكان عائدا من أحد البرامج الإذاعية، وكان من عادات عبيدة أن يحمل كل كتاباته فى حقيبة جلدية ضخمة،  فصادرتها مباحث أمن الدولة،  وعندما أفرجوا عنه حاول استرداد كتاباته النقدية وأشعاره وترجماته، إذ إنه كان يجيد عدة لغات، فأنكرت المباحث كل ذلك، وعلى إثر ذلك أصيب عبيدة بما يشبه اللوثة،  وانتحر فى غرفته الكائنة بحدائق القبة، بعد أن دلق على جسده صفيحة كيروسين،  وأشعل النار فى نفسه، ولم تكتب عن هذا الحدث سوى مجلة «الحوادث» اللبنانى،  ولكن رفاقه فى جمعية كتاب الغد، أصدروا ما استطاعوا أن يعثروا عليه من أشعار فى كتيب صغير،  هذه القصائد التى لا غنى عن قراءتها لقراءة المشهد الشعرى فى ذلك الوقت، بعد أن قتلته مباحث أمن الدولة الغشيمة، وبعد أن نفاه ناقد كبير بحجم لويس عوض!

 

والرابط بين الواقعتين هو حالة النفى المشترك لمبدعين ساهموا فى الحركة الفنية والثقافية بدرجات متفاوتة، النفى الأول عن عمد وسبق إصرار وترصد،  أما النفى الثانى فعن عدم معرفة وجهل وغطرسة ناقد كبير،  ولا يبقى لنا سوى إعادة الاعتبار لهذين المبدعين بإعادة نشر رواية «الوردة البيضاء» حتى تتعرف الاجيال الجديدة عليها،  وتتعرف كذلك على الحقيقة،  ونشر آثار الشاعر المنتحر أحمد عبيدة لاستكمال قراءة المشهد الشعرى فى السبعينيات، وياما فى النفى مظاليم!!

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved