مقتل السياسة فى الانتخابات المصرية
مصطفى كامل السيد
آخر تحديث:
الإثنين 2 نوفمبر 2015 - 10:20 ص
بتوقيت القاهرة
يقول المثل الشعبى الشهير «يقتلون القتيل ويسيرون فى جنازته». لا أجد أفضل من هذا المثل فى وصف حال حكامنا وهم يتحسرون على انخفاض مستوى المشاركة فى انتخابات مجلس النواب التى جرت مرحلتها الأولى خلال الأسبوعين الماضيين، فبعد أن أقرت الحكومة قانونا انتخابيا اعترضت عليه الأحزاب الرئيسية فى مصر وكثيرون من الخبراء؛ لأنه يلغى إمكانية أى حوار سياسى خلال فترة الحملة الإنتخابية، وبعد أن ضيقوا من المجال العام بحصار كل الأصوات المختلفة مع بعض مواقفهم فى قنوات التليفزيون وتركوها لمن لا يجيدون سوى الردح والتلاعب بما اسموه تسريبات تخوض فى الحياة الخاصة لمن هم ليسوا على هوى من فى السلطة أو على أسوأ الظروف ينافقون السلطة القائمة كما كانوا يفعلون قبلها. فماذا كان يمكن أن ننتظره من انتخابات لم يطرح فيها برنامج سياسى واحد يمكن أن يثير نقاشا جادا حول مستقبل الوطن، ودون أن يجد المرشحون فى غالبيتهم الساحقة ما يتمايزون به عن بعضهم البعض سوى درجة تفانيهم فى تأييد رئيس البلاد.
لو أتيح لى أو لكم يا أعزائى القراء أن تجلسوا قبل الانتخابات مع من يهمهم أمر هذه المشاركة داخل حكومتنا، ووصفتم لهذا المسئول الجو السائد قبل الانتخابات على أنه هو ما يميز بلدا آخر، وسألتموه ما هو مستوى المشاركة فى انتخابات هذا البلد، الذى هو فى هذه المحادثة الافتراضية ليس مصر، ماذا تتصورون كيف تكون إجابته؟ ألن يقول إنه سيندهش كثيرا لو جاء مستوى المشاركة الشعبية فى هذه الانتخابات مرتفعا؟ فلماذا غلبت الدهشة والحسرة على تعليقات المسئولين والإعلاميين وهم يتأملون ما جرى فى محافظات الصعيد وغرب الدلتا خلال الأسبوعين الأخيرين؟
•••
قيل لمن صاغوا قانون الانتخابات، ونقلت هذه الآراء للرئيس، عندما كان وزيرا للدفاع وبعد أن أصبح رئيسا للجمهورية، أن إنقاذ النظام السياسى المصرى هو بتعزيز دور الأحزاب فى الحياة السياسية، وأن مقاومة الإرهاب تكون بإفساح المجال أمام القوى المدنية من أحزاب ومنظمات أهلية وإعلام حر بحيث تتوافر أمام المواطن رؤى متعددة كلها تبغى خير الوطن وتسلك لذلك طرقا مشروعة متنوعة، ومن ثم يكون أمامه العديد من الاختيارات، وتعلمنا التجربة الإنسانية أنه لم توجد حكومة على سطح الأرض تحظى بإجماع كامل من مواطنيها يسعد رئيس الدولة أو الحزب ذو الأغلبية فى النظم الديمقراطية بأن يحصل على ما يقرب من ثلثى أصوات المواطنين، وتنحسر درجة الرضاء عن الحكومة التى فازت فى الانتخابات عندما تبدأ ممارسة السلطة، فلا تتجاوز مثلا فى حالة الرئيس الفرنسى فرانسوا هولاند ربع الناخبين حسب استطلاعات الرأى هناك. الاختلاف والتنوع هو سمة كل الكائنات بما فى ذلك البشر، والتنوع والاختلاف هو ما يثرى الوجود. ولكن من أوحوا بصياغة مثل هذا القانون يضيقون بالاختلاف، ففى رأيهم إما أن تكون مؤيدا لكل توجهات الحكم بعد الثالث من يوليو 2013 أو أنت إخوانى وإرهابى. الشباب الذين حكم عليهم بسنوات فى السجن لاعتراضهم على قانون التظاهر ليسوا إخوانا وليسوا ممن يؤيدون كل توجهات ما بعد 3 يوليو، الدكتور البرادعى ومن كان يشاركه بعض آرائه فى حكومة الدكتور حازم الببلاوى لا يمكن تصنيفهم ضمن أى من هذين الفريقين، بل إن القارئ لبعض الصحف المصرية هذه الأيام يجد كثيرين ممن ينتمون إلى فريق ثالث أو رابع أو خامس بين هذين الفريقين. فلماذا أشاع إعلامنا هذه الرؤية الفقيرة للاتجاهات السياسية فى مصر؟. لقد ردت عليهم هذه الجماهير الغفيرة التى لم تذهب إلى صناديق الإنتخاب، هم ليسوا جميعا من الإخوان، ومنهم بكل تأكيد كثيرون لا يعارضون الرئيس السيسى بالضرورة ولكنهم أيضا غير راضين عن بعض توجهات حكمه سواء بغياب الرخاء الموعود أو للتضييق على الحريات أو لانعدام الشفافية فى قرارات الحكم الكبرى.
•••
وطبعا خرج علينا فقهاء الحكم بحجج عجيبة تبريرا لهذا القانون الانتخابى العجيب، أولها أن الانتخاب الفردى هو النظام الذى عرفته مصر تاريخيا، وهو النظام المعمول به فى نظم ديمقراطية عديدة مثل بريطانيا والولايات المتحدة وفرنسا، ولكن ينسى هؤلاء أن النظام الفردى الذى عرفته مصر قبل ثورة 1952 لم يعرف من يسمى بالنائب المستقل. كل من كانوا ينجحون فى الانتخابات فى ظل النظام الملكى كانوا حزبيين. انقسمت برلمانات العهد الملكى بين وفديين وأحرار دستوريين أو أنصار الملك الآخرين فى حزبى الشعب أو الاتحاد، أو غيرها، وكان الاختيار سهلا بين المواطنين، فهم يختارون إما مرشحا وفديا أو مرشحا ينتمى إلى واحد من الأحزاب الأخرى التى اصطنعها الملك. ولم يكن شخص المرشح يهم المواطنين كثيرا. ولذلك شاعت هذه المقولة الساخرة أن المواطنين سينتخبون من يرشحه الوفد حتى لو كان.. وأترك لمعلومات القارئ أن يستكمل هذه العبارة. ونفس الأمر ينطبق على النظم الديمقراطية التى تأخذ بنظام شبيه لما كان فى مصر فى العهد الملكى والمعروف علميا بنظام الأغلبية تمييزا له عن نظام التمثيل النسبى الذى كانت تميل له معظم الأحزاب الرئيسية فى مصر. طبعا من حق أى مواطن بريطانى أن يترشح فى الانتخابات، ولكن الناخب البريطانى يتساءل أى حزب يمثله هذا المرشح، هل هو مرشح عن حزب العمال أو المحافظين أو الديمقراطيين الأحرار، ويتساءل الناخب الأمريكى هل هذا المرشح لمجلس النواب أو مجلس الشيوخ هو ينتمى إلى الحزب الديمقراطى أو الحزب الجمهورى. ومن النادر أن يتواجد فى برلمانات النظم الديمقراطية من ليس حزبيا أو من هو مستقل عن الأحزاب بالمعنى السائد فى مصر. طبعا يمكن أن يضيق المواطنون بالأحزاب، ولكن فى هذه الحالة تظهر أحزاب جديدة أو تتحول بعض منظمات المجتمع المدنى أو حركاته الاجتماعية إلى أحزاب سياسية. العمل السياسى بطبيعته عمل جماعى، ومن ثم فلا معنى إطلاقا لأن يخوض هذا العمل من يتقدم منفردا إلى ساحة العمل العام. التقدم فى العمل العام يعنى ببساطة القدرة على العمل مع الآخرين وكسب القوة من خلال هذا العمل الجماعى.
والحجة الثانية هى أن أحزابنا ضعيفة، وكم من حملات شنتها الصحف التى يقودها حملة مباخر نظام الحكم القائم على الأحزاب لأنها ضعيفة، لا تمثل المواطنين، ليس لها وجود لا فى القرى ولا الأحياء. طبعا بعض هذه الأقوال صحيحة، ولكن ما العمل إذا كان لا وجود لحياة ديمقراطية بدون أحزاب؟ ألا يجب أن نتساءل عن أسباب ضعف الأحزاب، وكيف ساهمت النظم السابقة فى تهميشها بإلغاء الانتخابات الحرة والنزيهة وهى وحدها التى فى ظلها تتطور الأحزاب، وهل علاج ضعف الأحزاب يكون بخنقها أم برى التربة التى تزدهر فى ظلها؟ كان الخيار الذى انتهت إليه اللجنة التى صاغت قانون الانتخاب هو المساهمة فى خنق الأحزاب من خلال هذا القانون. وهكذا وجد المواطن نفسه فى المرحلة الأولى من الانتخابات، وكما سيجد فى المرحلة الثانية عدة آلاف من المرشحين إما أنه لا يستطيع التمييز بينهم لأنهم يقدمون أنفسهم باعتبارهم «مستقلين» أو حتى عندما يكونون حزبيين، فأحزابهم بلا برامج سوى الموالاة. لا عجب أن ينصرف المواطنون فى غالبيتهم الساحقة عن هذه المباراة غير المثيرة.
•••
ولكننا لا نخترع عجلة. نحن نرفض العجلة التى تسير عليها كل النظم الديمقراطية شرق العالم وغربه، شماله وجنوبه، ولم نبدع عجلة بديلة، بل إن الأحزاب تعود وتتفوق على المستقلين، لأنه لا غنى عنها كأداة للحشد الانتخابى، ولكنها تعود بلا ما ينبغى أن يميزها من تباين فى البرامج ووضوح فى طبيعة الأغلبية التى تسود البرلمان. نحن نعود إلى الوراء، ونحلم بتلك التعددية التى عرفتها بعض برلمانات مبارك بين 1987ــ1990، أو بين 2005ــ2010 عندما تراوح وجود المعارضة فى مجلس الشعب بين الخمس والربع. لقد كان نكوص مبارك عن هذه التعددية بانتخابات 2010 التى جاءت له بأغلبية ساحقة، لم يتجاوز فيها عدد المرشحين المعارضين سبعا بين 454 نائب، هو القشة التى أطاحت بحكمه. فهل نتعلم من الماضى القريب؟